الشخصية المصرية، التى هى فى جوهرها دراسة للطابع القومي، كانت دوما بالنسبة للبعض وأنا منهم- فكرة غامضة ومقلقة قد لا تزيد عن كونها «انطباعات»، بعضها يستند إلى دراسات ميدانية عن القيم مثلا، ثم يميل إلى التعميم، وتصل إلى بعض القراء والباحثين باعتبارها «خلاصات يقينية»... تصاعد اهتمامى فى الفترة الأخيرة بالأعمال والكتابات الرئيسية عن الشخصية المصرية، لعلى أجد إجابة أو تفسيرا لهذا التناقض بين الطرح النظرى للشخصية المصرية البسيطة، الطيبة، الكريمة التى لا تميل إلى العنف وتتسم بالتسامح... إلخ، وبين ما نراه من ممارسات عنف يومية، واللاتسامح فى الحوار، والتشدد فى المواقف، بل التجاوز «قولا وفعلا» فى الشارع المصرى والمؤسسات الإعلامية والتعليمية، بل داخل الأسرة الواحدة، وبين أطراف الجيرة الواحدة، وزملاء العمل.. فى سنوات محدودة، وبعد ثورة 25 يناير حتى اللحظة الحالية، غابت السمات الطيبة والأصيلة، وحل محلها الفوضى والصراع والتنافس والتناحر والتوتر، وغاب مفهوم «العيب».. ولا توجد أى موانع أو ضوابط أخلاقية للاغتيال المعنوى بين أطراف النخبة، وبشكل علنى فى الفضائيات والصحافة والفيس بوك.. ولا توجد أي مشاكل للانتقال المفاجئ من «الصديق إلى العدو».. بإيجاز شديد إذا كان هذا هو حال «النخبة المصرية» إلا القلة- فإن حال الشارع المصري، لا تقل «ضراوة وتوترا وصداما»، وتغذيه الظروف الاقتصادية شديدة الوطأة، وغياب الأمن، وغياب الأمل... عدم اليقين والشك فى المستقبل هو السائد، وحين تتحرك مشاعر إيجابية ترى بعض الأمل فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، تتحرك الأقلام والأصوات المؤيدة لأحد الطرفين، لاغتيال معنوى للطرف الآخر، ونتابع متعجبين- تحركات المناضل الثورى «الدائم» للصعود على «جثة» الآخر.. ما الذى يحدث للمصريين؟ وهو السؤال الذى طرحه أستاذنا د. جلال أمين، منذ سنوات قليلة، ولايزال يتردد بين كافة الأطراف. لقد اتجهت إلى «إعادة قراءة» الأعمال والكتابات الرئيسية عن الشخصية المصرية، فقد أصل إلى فهم أفضل أو تفسير يبتعد عن «المفاتيح النمطية». وبإيجاز شديد، تمثلت محصلة إعادة القراءة، فى الأفكار التالية: الفكرة الأولى: قناعتى بما تحدث عنه أستاذنا د. جمال حمدان تفصيلا، فى عمله الموسوعى الضخم «شخصية مصر» بأن ملامح الموقع من أخطر مفاتيح الشخصية المصرية... مصر - على حد قوله- «لا تستطيع أن تكون منطوية. هى متناقضة النهر والصحراء». لكن هل يقودنا ذلك إلى القول بأن التوسط والاعتدال «سمتان أبديتان»؟ وهل تلاحق الأحداث وتشابك المتغيرات الضاغطة، من الداخل والخارج، لم يؤثرا فى «التوسط والاعتدال»؟ الفكرة الثانية: إن أى خطوط عريضة أو ملامح تحدد الشخصية المصرية أو غيرها، هو أمر ناتج عن تفاعل البشر معا فى بيئة ثقافية واجتماعية وسياسية معينة، وفى لحظة محددة، ويفترض فيها تولى مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية مهام إكسابهم الثقافة والتربية. ويصبح السؤال ماذا لو فقدت غالبية هذه المؤسسات، وتحت ضغوط مختلفة منها ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجى (التكنولوجيا وعملية الاتصال الاجتماعى) أهم أدوارها؟ وماذا لو انسحبت أو تراجعت؟ صراع وتضارب المصالح والفوضى والعنف هى البديل.. لا توجد سمات أو ملامح دائمة، ولا يصح التعميم. الفكرة الثالثة: فى جوهر الكتابات التى ناقشت الشخصية المصرية، ومنها موسوعة د. حمدان، إن قضية القهر السياسى هى وفقا لما ذكره- «أس وجذر الشخصية المصرية، ومنبع ومصدر كل سلبياتها وعيوبها وأمراضها الحادة والمزمنة»... ينبغى أن نتخطى تحليل ملامح الشخصية المصرية من منظور أنها تعكس الشعب الطيب المستسلم «المفترى عليه»... ففى لحظات، خاصة بعد الثورات، تتغول وتتوحش قطاعات من الشعب وقطاعات من النخبة وبآليات جديدة- ليصبح من فى السلطة هم «المفترى عليهم»، بل تصبح قطاعات محترمة من القادرين والأغنياء والشرفاء، هم جميعا رموزا للفساد ومستهدفين بالاغتيال المعنوي. الفكرة الرابعة: أن القول بأن الشخص الممتاز لا مكان له فى وسطية مصر وأفضل مكان له خارجها. «وأن مصر تضيق بالممتاز وتسمح للعادى أو المتوسط بأكثر مما ينبغي» (ص540- د. جمال حمدان)، هو قول قد يكون صحيحا فى بعض الأحيان، ولكن يصعب تعميمه من جهة، ولا يدخل ضمن «نفى الآخر وإنكاره»، وحين تصل بساطة «عملية النفي» من جانب أحد المرشحين الرئاسيين، لاتهام الآخر علنا- بأنه كان يؤدى التحية العسكرية للرئيس السابق، بينما كان هو يناضل ويتحرك مع الثوار، ألا يجعلنا هذا نقول إن إحدى سمات الشخصية المصرية (على مستوى بعض قطاعات ما يسمى النخبة وبعض الجماهير) هى قلب الحقائق والوقائع ثم ترديدها وتصديقها؟ الفكرة الخامسة: أن الاعتدال الذى تحدثت عنه كتابات الشخصية المصرية، لم يعد أحد ملامح الشخصية المصرية، والدليل ليس فقط الجماعات الدينية (الإخوان وغيرهم)، ولكن عقلية وسلوك بعض النخب والجماهير.. حين يخرج علينا أحد المرشحين الرئاسيين ليقول إن لديه خمسة ملايين مشروع لمصر (أى أنه على مدى 4 سنوات، سيكون هناك كل يوم 4325 مشروعا) ويتوقع منا أن نصدقه، أليست هذه مبالغة مضحكة تستند إلى افتراض الغفلة فى المصريين؟ ثم حين يشير المرشح الرئاسى الآخر عن حق- أن أمامنا ما لا يقل عن عامين، حتى نشعر بأن هناك تغييرا للأفضل، ويوجه إليه «النقد الجارح» بأن الناس غير قادرة على الصبر (وهى أصلا غير راغبة فى العمل)، أليس هذا من عجائب الشخصية المصرية؟ الفكرة السادسة: إن السقوط والصعود المتتالى لنظم حكم وقوى وتيارات سياسية، والتسارع الضخم فى الأحداث التى شهدتها مصر منذ الثورة الأولى، ثم الثانية، ثم المرحلة الانتقالية تجعلنا نقول إن سمتى «المرونة والتكيف» هما اللتان بقيتا فى استمرارية ملامح الشخصية المصرية.. وهما يحملان معا آليات متعددة، بعضها سلبى وبعضها الآخر إيجابي.. تأمل قدر النفاق والتملق كآلية للاستمرار، وتأمل خرق القوانين والالتفاف حولها، وتأمل اللامبالاة فى أحيان كثيرة، وتأمل مقاهى الانترنت فى العشوائيات، ثم تأمل المصريين وهم يرفضون دعاوى الإخوان المسلمين وسلوكهم ويتشبثون بهوية وثقافة ترفض التطرف.. أليس هذا من التناقضات؟ تناقضات كثيرة يشهدها المجتمع المصري، وظروف اقتصادية واجتماعية غاية فى القسوة، وفوضى لا تحكمها قوانين أو معايير أخلاقية، ولكن طاقة الصبر لم تنفد بعد، ولاتزال نافذة صغيرة مفتوحة على الأمل والمستقبل. وهذه النافذة الصغيرة سوف تتسع تدريجيا من خلال قيادات «محترمة» لها مصداقية، تدرك بحق أن التغيير فى ثقافة وقيم هذا الشعب هو الذى سيحدث الفارق وتدرك بحق- أن تضافر كل المؤسسات الإعلامية والتربوية، سوف يؤثر إيجابا على احترام قيمة العمل، وقيمة الوقت، واحترام القانون، واحترام الآخرين حتى إن اختلفوا معنا. بدون ذلك لا يصبح هناك معنى لأى إصلاح اقتصادى وسياسي. لمزيد من مقالات د. أماني قنديل