أبرزت الصحف المصرية منذ أيام خبرا عن استفتاء أجرى فى سويسرا أسفر عن رفض 76% من الناخبين تطبيق حد أدنى للأجور. وأوردت الصحف المصرية الخبر مع قدر من اللمز والمقارنة بين الشعب السويسرى الواعى الذى يقدر خطورة ارتفاع فاتورة الأجور على المستثمرين ورجال الأعمال، بما لذلك من آثار سلبية على معدلات الاستثمار والإنتاج والمواطن المصرى، الذى لا يعبأ إلا بمطالبه الفئوية ولا يقدر الظروف الصعبة التى تمر بها البلاد والأعباء الضخمة التى تنوء بها حكومته. تجاهلت الصحف المصرية حقيقة أنه على الرغم من عدم وجود حد أدنى إلزامى للأجور فى سويسرا إلا أن الحد الأدنى الفعلى المعمول به للأجور يعد من أعلى المعدلات فى الدول الصناعية المتقدمة ويبلغ فى المتوسط نحو 13٫4 دولار فى الساعة للعمالة غير الماهرة و 17٫1 دولار فى الساعة للعمالة الماهرة، وذلك مقابل حد أدنى إلزامى للأجور لا يتجاوز 7٫2 دولار فى الساعة بالولايات المتحدةالأمريكية ويتراوح بين 10 و 11 دولارا للساعة فى انجلترا وايرلندا وهولندا وكندا ويدور حول 12 دولارا فى الساعة فى كل من فرنسا وموناكو ونيوزيلندا. المسألة إذن ليست أن المواطن السويسرى يعيش فى ظل مستويات أجور متدنية ويضحى رغم ذلك بتقرير حد أدنى للأجور يكفل له الوفاء باحتياجاته الأساسية. فالمطروح فى الاستفتاء كان وضع حد أدنى للأجور يبلغ 25 دولار افى الساعة بما يقرب من ضعف المستوى السائد حاليا، ليمثل بذلك أعلى مستوى على الإطلاق بين الدول الصناعية المتقدمة، وربما فى العالم كله، وهو ما رأى المواطن السويسرى أنه يمكن أن يمثل زيادة كبيرة فى تكلفة الانتاج وخاصة بالنسبة للمشروعات الصغيرة. فهل هناك أى وجه على الإطلاق للمقارنة بين وضع المواطن السويسرى والمواطن المصرى فيما يتعلق بمستويات المعيشة ومستويات الأجور السائدة وحدودها الدنيا؟ البيانات الرسمية للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن نسبة السكان الذين يقعون تحت خط الفقر فى مصر يمثلون أكثر من 26% من السكان، أخذا فى الاعتبار أن الجهاز يعرف الفقر بأنه عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للفرد/ الأسرة، ممثلة فى الطعام والمسكن والملابس وخدمات التعليم والصحة والمواصلات، ويرى أن مستوى الإنفاق الذى يفى بتلك الاحتياجات فى مصر هو327 جنيها للفرد شهريا! كما يؤكد الجهاز أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى 1620 جنيها شهريا للوفاء باحتياجاتها الأساسية، أى لمجرد البقاء على قيد الحياة. إذن مطالبة الشعب المصرى بتطبيق حد أدنى للأجور يكفل البقاء على قيد الحياة لا يمثل مغالاة أو تجاوزا ، كما لا يمثل بدعة بين شعوب الأرض. فوجود حد أدنى للأجور يكفل الحياة الكريمة للعامل وأسرته، هو حق من حقوق الإنسان التى توافقت عليها البشرية ونص عليها كل من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان (المادة 23) والعهد الدولى الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 7أ) ومواثيق منظمة العمل الدولية، فضلا عن الدستور المصرى الجديد. ويتم تقدير الحد الأدنى للأجور الذى يكفل الحياة الكريمة للعامل وأسرته فى مجتمع ما بالمبلغ الذى يكفى لتغطية تكاليف الحاجات الاجتماعية الأساسية من غذاء وملبس وسكن وتعليم ورعاية صحية ومواصلات وترفيه، فى ضوء مستويات الأسعار السائدة، ومتوسط معدلات الإعالة فى هذا المجتمع، كما تتم مراجعة ذلك الحد دوريا فى ضوء معدلات التضخم لضمان الحفاظ على القوة الشرائية والقيمة الحقيقية للأجر دون انخفاض. وقد تم اعتماد تلك الآلية وتطبيقها فى عدد كبير من دول العالم فى قارات العالم الخمس، سواء على صعيد الدول الصناعية المتقدمة أو الدول النامية، وسواء تعلق الأمر بدول رأسمالية أو دول ذات خلفية اشتراكية. وفى مصر أقرت حكومة الدكتورحازم الببلاوى حدا أدنى للأجور تم تطبيقه جزئيا على العاملين لدى الدولة، كما تم الإعلان عن تطبيق حد أقصى للأجور لايزيد على 42 ألف جنيه، وذلك باستثناء بعض القطاعات، رغم التأكيد مؤخرا على تطبيق ذلك الحد الأقصى على رئيس الجمهورية. وهنا لابد أن نؤكد أن تطبيق الحد الأقصى على إجمالى دخل الموظف العام، أيا ماكانت مصادره، هو نقطة البدء فى توفير جزء مهم من المبالغ اللازمة لرفع الأجور. فالوزراء وكبار العاملين فى الدولة، لايحصلون فقط على مرتبات وبدلات من الموازنة العامة للدولة ولكنهم يحصلون أيضا على مبالغ ضخمة تتراوح بين عشرات ومئات الآلاف من الصناديق الخاصة التى تمثل موارد سيادية يتم جبايتها من الشعب ويتعين إضافتها للموازنة العامة للدولة. كما أن المستشارين فى المواقع الحكومية المختلفة، الذين كثيرا ما يعلن أنهم لا يتقاضون مليما واحدا من الموازنة العامة ولا يزاحمون العاملين بالحكومة فى مخصصات أجورهم، إنما يحصلون على مقرراتهم المالية الضخمة من المساعدات الدولية التى تحسب على الشعب المصرى كله . وأخيرا فإنه يتعين على الدولة اتخاذ موقف حازم من القطاع الخاص الذى يرفض ممثلوه حتى الآن تطبيق الحد الأدنى للأجور، رغم أن بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تؤكد أن متوسط أجر العامل فى القطاع الخاص يمثل أقل من 60% من متوسط أجر العامل فى القطاع العام بالنسبة للذكور ونحو 37% من ذلك المتوسط بالنسبة للإناث. فهل يمكن تصور أن ذلك وضع قابل للاستمرار؟. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى