كان شهر العسل بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكرى فى أوجه، وقت أن كانوا مع حلفائهم السلفيين والجهاديين يهتفون «يا مشير انت الأمير»، ويتهمون معارضة الإعلان الدستورى الصادر عن المجلس بالكفر وبالمؤامرة القبطية ضد الإسلام ويقسمون بأغلظ الأيمانات بأنهم لن يرشحوا رئيسا للجمهورية (والمعنى الضمنى هو ترك المنصب التنفيذى الأول فى الدولة لمرشح للمجلس العسكري. وقتها كتبت على تويتر أن الإخوان يتصورون مصر كامتداد موسع لنقابة الإطباء، يسيطرون على المجلس والنقابة ويتركون الرئاسة للدكتور حمدى السيد (حزب وطني) ومعادله على الصعيد القومي، المشير طنطاوي. كان تعليقا ساخرا، غير أننى أظنه يحمل الكثير من الحقيقة، ووجهت بسببه بسيل من السباب المقذع من قبل أعضاء وأصدقاء التنظيم الملتزم بمكارم الأخلاق افتراضا. تذهب الحكمة الشائعة إلى أن الجنرالات عادة ما يخططون للحرب الماضية، ومناسبتها الخيبة التى منى بها خط ماجينو الفرنسى الشهير، حين تجاهلت جيوش ألمانيا النازية الخط المنيع وقامت بغزو فرنسا عبر بلجيكا فى عملية خاطفة استغرقت خمسة أيام فقط. وأدعى أن من بين المشكلات الكبرى لتداعيات ما بعد ثورة يناير أن أكثر القوى الفاعلة فى الدولة والمجتمع المصري، وربما كلها، عجزت عن ادراك حجم ما حدث، وأن الثورة الشعبية الأولى فى مصر منذ ما يقرب من قرن من الزمان قد أحدثت شرخا فاصلا، وهوة عميقة مع الماضى والمألوف بكل ما يحملانه من بضاعة قديمة. الثورة فعل خيال جامح وجموح خيال، ويكفينا أن نعود بالذاكرة قليلا للثمانى عشرة يوما المجيدة فى يناير وفبراير من 2011، لنستدعى صور الملايين من أبناء شعب بدا وقد قفز قفزة هائلة فى الزمان والمكان، لتشكف عن إمكانية مصر جديدة تماما، مختلفة تماما، مصر كان من المحال تصورها صبيحة 25 يناير إلا ربما فى عمل أدبى لكاتب حالم. دروع بشرية من الأقباط يحيطون برفقائهم من المتظاهرين المسلمين وهم يؤدون فروض الصلاة فى الميدان، مصاحف وصلبان ترفع عاليا فوق الرؤوس، ميادين وشوارع مكتظة بمئات الآلاف من الرجال والنساء ولا تحرش جنسى أو إساءة، ابداع متفجر يعكس نفسه فى لافتات صممها حاملوها، وفى حوائط زاخرة بالرسومات والشعارات، وفى عبقرية تنظيمية يكشف عنها المئات من الشباب من الجنسين، يأتلفون ويعملون معا ليل نهار لتنظيم المسيرات والاعتصامات والشعارات المطالب الموحدة، مواطنون عزل تحت الرصاص يكشفون عن شجاعة واصرار واستعداد للتضحية لم نر لها مثيلا لأجيال، ولم نكن نتصور كمونها فى النفس المصرية، وكل هذا تحت راية كبرى خفق لها وجدان العالم كله: عيش، حرية، كرامة انسانية، عدالة اجتماعية. لكن، بقدر جموح خيال الثورة كان فقر خيال ما اصطلح على تسميته عندنا ب«النخبة»، وقد ركنت بمختلف مواقعها وتياراتها لماكيتاتها القديمة. الماكيت الإخوانى قديم قدم التنظيم، لا يعرف الثورة ولا يسعى لها، وكان المرشد المؤسس حسن البنا يرى فى الثورة، وبالأحرى فى احتمالها، نذيرا لتهديد الحكام وابتزازهم، والرسالة ليست «سنعمل من أجل الثورة» ولكن «أفسحوا لنا مكانا فى السلطة والسطوة، حتى ننقذكم من خطر الثورة.» الثورة عند الإخوان اضطرابات وفوضى، وقوام الماكيت الإخوانى هو الأخونة من تحت (بالدعوى الأيديولوجية، وبالعمل الخيري، وبالبيزنس، وبالزيت والسكر) من ناحية، واستعمال الغضب والتمرد الشعبى لإبتزاز الحكام لتمكين الإخوان ومشاركتهم السلطة حتى يسهمون فى احتواء الغضب والتمرد ووضعه «تحت السيطرة». وهو بالضبط ما شهدناه صبيحة 11 فبراير، غير أن الطاقة الثورية لملايين المصريين حالت دون السيطرة وأفسدت الصفقة. بدورها، الطبقة الحاكمة المصرية، وهى المكونة من رجال دولة يمتهنون البيزنس، ورجال بيزنس يستحلون الدولة، ورجال أمن يجمعون بين البيزنس وتأمينها بالحديد والنار، هذه الطبقة ترى نفسها قائمة وقوامة على شعب من الرعاع: كسالى، ينجبون أكثر مما ينبغي، ويأكلون ويشربون أكثر من اللازم، وفوق هذا وذاك «يتبترون على النعمة». لا مكان لثورة شعبية أو لشعب يطمح لحكم نفسه بنفسه فى ماكيت هذه الطبقة، فالثورة عندهم هى إما فوضى وإما مؤامرة، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هى علاقة السيد بخادمه، وهدف الحكم ومنتهاه هو وضع الشعب المتمرد المتبتر المتلاعَب به «تحت السيطرة»، استعادة لاستقرار الحكم والبزنسة بإعادة الشعب إلى حظيرة الخوف والركون والصبر والخنوع. ولا مانع فى سبيل تحقيق ذلك من التوصل إلى تفاهم ما مع بعض المتآمرين، وكانت عقيدة تلك الطبقة خلال ثلاثة عقود من الزمان إن أولئك لا يمكن أن يكونوا غير القوى الدينية، وفى مقدمتها الإخوان المسلمين. وهو بالضبط ما شهدناه صبيحة 11 فبراير. أما أحزاب المعارضة، وقد نشأت كمعارضة «موالية» على أيدى أنور السادات وورثها حسنى مبارك، وعاشت فى كنفه ثلاثين عاما شهدت تجريفا شاملا للمجال السياسى فى البلاد، فقد جًلبت على تقديس سلطة الدولة، والخضوع والخنوع للقائمين عليها، جل دورها هو تقديم النصح للحاكمين وتلطيف إمكانات «السيطرة»، أملا فى بعض العطايا الحزبية أو الشخصية. لا مكان فى ذلك الماكيت أيضا لشعب ثائر يطمح لأن يحكم نفسه بنفسه، ولم يتسع خيالهم لأن يروا فى الثورة غير إمكانية لتوسيع نطاق كل من النصح والعطايا. ولكن ماذا عن الثوار؟ هنا فى الحقيقة يكمن موطن المأزق الجوهرى فى مسار الثورة المصرية وتداعياتها، فقد كان جموحها أبعد وأوسع مدى من خيال صانعيها أنفسهم. الثورة المصرية كأى ثورة تاريخية كبرى مثلت قطيعة كيفية مع الماضى وقفز نحو مستقبل جديد كل الجدة، غير أن الماضى بقى طاغيا على العقول والوجدان، ليبقى المحتوى الجديد أسير ماكيتات قديمة خانقة. وسنتابع نقاشنا لماكيتات الثوار فى مقالات مقبلة بإذن الله. لمزيد من مقالات هانى شكرالله