هناك من يستعيد عبد الناصر من حيث الشكل والمظهر .. وهناك من يستعيد عبد الناصر الجوهر والانحياز والمواقف .. وفى تقديرى فإن الناصرية ليست مجرد رداء او انتماء مؤسسي، وانما استلهام واع لجوهر تجربة أحدثت تغيرات اقتصادية واجتماعية، مصر فى حاجة اليها اليوم، وقدمت نموذجاً فى الاستقلال الوطنى اسهم بشكل ايجابى فى تلك التغيرات وبينما كنت أتصفح بعض اكوام أوراقى القديمة، وقع بصرى على دفتر قديم يرتبط بذكرياتى التى كنت اكتبها بعد النكسة مباشرة، فرغم عمق الصدمة وفداحتها، فإننى عكفت على الاستزادة من القراءة ربما فى محاولة واعية او غير واعية لإدراك حقيقة ما أصابنا، وكنت انقل احياناً بعض ما تقع عليه عينى دون خطة معينة او ترتيب مسبق، وحين كنت أعود الى بعض تلك الفقرات التى اكتظت بها أوراقى القديمة، سواء بالنقل او بالإبداع، كنت اكتشف اعماقا اخرى لم تتح لى حين خططتها سواء لقلة الخبرة او لإيقاع الحياة السريع، حتى اصبح ذلك المخزون الضخم ثروة كامنة بين صناديق أوراقى، اغترف منها من حين الى آخر، وأستعيد ازماناً مضت، وأتأمل حاضراً يجرى من حولى، واستشرف مستقبلاً يطل من شرفات الزمن . والفقرات التالية تجمعت فى دفترى متتالية ، ولسوف انقلها كما هى مع تفادى التعليق قدر الإمكان .. فى عدد « نيويورك تايمز» الصادر يوم 18 يونيو 1957، كتبت دانا أدمز شميدت : «ان عبد الناصر لا يزال رمزاً شعبياً فى العالم العربى كله ، فهو يمثل القومية المعادية للغرب، مع ترفعه عن المصلحة الشخصية الضيقة وعدائه للفساد، ولا يستطيع ان ينافسه فى ذلك الملوك الثلاثة: حسين الأردن او فيصل العراق او سعود السعودية، فهم ليسوا فى مستواه.. لذلك فإن أرباح الغرب تبدو تافهة اذا قيست الى شعبية عبد الناصر ... إن رجل الشارع المصرى يرى عبد الناصر بطله فى الكفاح ضد الفقر وضد نظام الامتيازات والظلم والفساد الحكومى، وضد كل عوائق التنمية الى الافضل .. ورغم ان الاصلاح الزراعى الذى قدمه عبد الناصر لم يتقدم بشكل كبير حتى الآن، فإنه بلا مثيل فى اى مكان آخر فى الشرق الاوسط ... لقد منح ناصر لمصر اول حكومة نظيفة عرفتها على مدى قرون .. إن اسلوب حياته المتواضع، وخصوصياته التى لم تقترب منها الفضائح ، وعدم قابليته للفساد وإخلاصه وشجاعته، فضلاً عن سلوكه الشخصى الديمقراطى .. كل ذلك إدى الى اتساع شعبيته وازدياد الثقة فيه»... فى تعليق لعبد الناصر الى صحفى غربى قال : «إنهم يقولون عنى فى امريكا اننى ديكتاتور ، لأننى لا اتلقى الأوامر منهم .. هناك اكثر من ديكتاتور يطيع وزارة الخارجية الامريكية، ولا يطلق عليهم احد اى اسماء، وربما اذا اطعت أوامرهم يطلقون على اسم الديمقراطى الطيب». وعندما سأله صحفى امريكى عن الذى كان يعنيه عندما قال إن امريكا وبريطانيا وفرنسا يشنون حرباً اقتصادية ضد مصر، أجاب عبد الناصر : «لقد قمتم بتجميد عملتنا الصعبة، ورفضتم بيع القمح والأدوية لنا، حاولتم ان تضغطوا اقتصادياً كى نغير سياستنا فى القناة، الفارق بينكم وبين حلفائكم انهم حاولوا قتلنا بالقنابل، بينما حاولتم انتم قتلنا بالوسائل السلمية By peaceful means ، اى بالضغوط الاقتصادية والتجويع، ولقد فشلت المحاولتان» .. وفى رده على سؤال عما اذا لم يكن متخوفاً من الاختراق السوفيتى اقتصادياً وسياسياً فى الشرق الاوسط، قال عبد الناصر: «إن المنطق الامريكى يختلف عن منطقنا، الغرب لا يتاجر معنا، ولا يبيع لنا أسلحة، ويجمد ممتلكاتنا، فماذا تتوقع منى ان افعل؟ .. انها مسالة حياة أو موت بالنسبة لمصر» .. وفى لقاء صحفى بين عبد الناصر والصحفى وليام أتوود نشر فى مجلة «لووك» يوم 25 يونيو 1957، شرح عبد الناصر لماذا امتنعت مصر عن التصويت على قرار الاممالمتحدة الخاص بإدانة الغزو السوفيتى للمجر، فلم يحاول عبد الناصر التهرب من السؤال مثلما فعل نهرو، وانما أجاب ببساطة وصراحة: «لان الاتحاد السوفيتى كان الدولة الوحيدة التى أيدتنا فى مجلس الأمن فى اثناء أزمة قناة السويس .. لقد امتنعنا لإبداء الشكر» .. وفى إجابة على سؤال آخر يتعلق بمدى ارتباط الاقتصاد المصرى بالكتلة الشرقية ، قال ناصر :«إنه نفس ارتباط اقتصادنا بالغرب حتى سنوات قليلة مضت، وهل هذا شر فى ذاته؟ .. لم يكن لدينا فى الشتاء الماضى سوى احتياطى من القمح لمدة شهر، ونقص فى البترول، كما كنا نريد بيع القطن .. توجهنا اليكم إلا أنكم خذلتمونا ، بعد ذلك باع لنا السوفييت القمح والبترول وأشتروا قطننا .. لقد ساعدونا كى نعيش ، كى نتخلص من هيمنة الغرب .. كيف يمكن ان اعتبر ان ذلك شراً ؟؟» .. وأخيراً، فإن ما تقدم ليس الا أمثلة مما تزدحم به أوراقى من ذكريات عن هذا الزعيم الذى يتبارى الجميع الآن فى استدعائه والتبرك بسيرته او ارتداء قميصه ، رغم ان بعضهم شارك بحماس فى حملة تشويه الرجل لمدة اربعين عاماً .. رحمك الله أبا خالد.. مساعد وزير الخارجية الأسبق لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق