ليس من شك في أن الإنسان منذ وجد علي هذه الأرض وسعي في مناكبها وقضية المستقبل تستحوذ علي القدر الأكبر من اهتمامه, وإذا ما أمعنا النظر لاتضح لنا ان اهتمامه هذا بالمستقبل. لم يكن ترفا ولا تزيدا, فظروف حياة الإنسان البدائي لم تكن لتسمح بترف ولا بتزيد. لقد كانت قضية المستقبل لديه قضية حياة أو موت أعني حياته أو موته. المستقبل أمامه مليء بالأخطار التي تتهدده من كل صوب وفي كل لحظة. كلها أخطار محتملة أي أنها قد تحدث وقد لا تحدث, فإذا ماحدثت فهو هالك لا محالة, وإذا لم تحدث فلسوف تمضي به الحياة, ولكن, اي حياة تلك التي يسودها القلق والترقب ويملؤها الفزع والرعب. أيبقي في مكانه؟ قد تنهمر عليه السيول فتجرفه, وقد تنفجر من تحته البراكين فتدمره, وقد لايحدث شيء من ذلك علي الإطلاق, أيخرج للصيد؟ قد يكون ذلك الحيوان القادم نحوه وحشا مفترسا لا قبل له بمواجهته وقد يكون صيدا سهلا فيه غذاؤه. هل يأكل هذا النبات؟ قد يكون ساما فيقضي عليه, وقد يكون طيبا فيشبعه, أو مرا حنظلا لايستساغ, وقد يكون مقبولا شهيا فيه فائدة, ومئات من الأسئلة أو النقل من المشاكل طرحت نفسها علي الإنسان منذ وجد, آخذة بخناقه دافعة به إلي دوامة من القلق تهدد وجوده, وتكاد أن تقضي عليه. ولم يكن من حل امام الإنسان إلا أن يعرف. أن يعلم. لم يكن أمام الإنسان البدائي لكي يكفل أمنا لوجوده ولكي يضع نهاية لقلقه, إلا أن يعرف ما إذا كان معرضا لسيل جارف أو لبركان مدمر. أن يعل أي الحيوانات تصلح لغذائه, وأيها يصلح هو لغذائها, أن يعلم أي النباتات سام وأيها طيب, أيها مر وأيها مستساغ. وبناء علي معرفته تلك بالمستقبل يستطيع أن يتخذ قراراته. فإذا أدت به معرفته إلي أن مكانه سوف يتعرض لبركان أو لسيل أو لزلزال. اتخذ سبيله بعيدا عنه. وإذا أدي به علمه إلي أن ذلك النبات سام سوف يفضي إلي موته إذا ما أكله, أو أن طعمه سوف يكون مرا, اجتنبه ولم يقربه, وإذا أدت به معرفته إلي أن ذلك الحيوان القادم نحوه سوف يتمكن من افتراسه اتخذ حذره منه. كانت المعرفة بالطبيعة لدي الإنسان البدائي تعني الأمن والحياة. وهي مازالت كذلك حتي يومنا هذا بصورة أو بأخري. ولو تصورنا جوهر تلك المعرفة البدائية أو ذلك العلم البدائي بالطبيعة, لما وجدناه يختلف من حيث جوهر العمليات النفسية التي تحكمه, ولا من حيث الدوافع الأصيلة التي تدفعه, ولاحتي من حيث الأهداف التي يسعي إليها عن المعرفة والعلم بالطبيعة في أي عصر وفي أي مكان. ولنتأمل كيف حصل ذلك الإنسان البدائي علمه؟. ولقد حقق الإنسان البدائي ذلك بملاحظته لأحداث مضت. أحداث وقعت له أو لغيره ورآها ففسرها وتوصل إلي فهم لها ومعرفة بها, وتمكن بناء علي تلك المعرفة وذلك الفهم من التوصل إلي تنبؤ بما سوف يحدث, ومن ثم أقدم علي ما أقدم عليه وهو أكثر اطمئنانا, وتجنب ماتجنبه وهو أكثر آمنا. إن العلوم الطبيعية جميعا مهما اختلفت, وتعددت, وتباينت صورها ومجالاتها, لاتعدو أن تكون في النهاية استقراء لوقائع حدثت وتنبؤا بوقائع سوف تحدث. وقد يتعمد الإنسان أن يحدث تلك الوقائع ليستخلص منها ما يستخلصه من تنبؤات, كما يحدث مثلا في بعض تجارب الكيمياء والطبيعة وقد ينتظر حدوث تلك الوقائع ويقوم برصدها ليصل إلي تنبؤاته كما هو الحال في دراسات علم الفلك وبعض فروع الطب أيضا. أما بالنسبة للعلوم السلوكية فالأمر جد مختلف, فكثيرا ما تشتغل الدول والجماعات بل والأفراد بالتنبؤ بالتصرفات المتوقعة من الآخرين, ما هو رد الفعل المتوقع من الجمهور في حالة اتخاذ القيادة قرارا معينا؟ تري كيف ستتصرف السلطة حيال تحرك جماهيري معين؟ كيف ستواجه دولة معينة أعمالا عدائية موجهة لها من دولة أخري؟ كيف سيكون رد فعل صديقي أو عدوي إذا ما أقدمت علي هذا التصرف؟ تري هل يمكن الاعتماد حينئد فحسب علي استقراء الماضي للتنبؤ بالمستقبل؟ إننا كثيرا ما نقع عند استطلاعنا لمسار الأحداث السياسية في غواية الاعتماد بشكل أساسي علي قراءة الماضي, وربما ترجع تلك الغواية إلي إن قراءة الماضي باعتبارها أحداثا وقعت واكتملت بالفعل تكون أيسر, وربما ترجع تلك الغواية أيضا إلي حنين غلاب يتملكنا حيال ماض نراه زاهرا فنحلم باستعادته ونتمني ذلك. ولا شك أن الاستقراء الدقيق للماضي يفيدنا في التنبؤ بمستقبل السلوك, ولكن الاقتصار عليه فحسب قد يكون مغامرة غير مأمونة العواقب! وصحيح أننا نخطيء كثيرا إذا ما أغفلنا دروس التاريخ, ولكن نخطيء أكثر إذا ما راهنا علي أن التاريخ يعيد نفسه, فالإنسان يختلف عن بقية الكائنات في أنه يعي تاريخه وبالتالي فإنه يستطيع أن يتحرر من تكراره ولو بمقدار, ولذلك فإننا ينبغي أن نضع إلي جانب الإحاطة الدقيقة بالماضي, ونحن بصدد التنبؤ بمسار المستقبل, مجموعتين إضافيتين من العوامل, مجموعة تتصل بالتفاصيل المتجددة لذلك الحاضر, وأخري تتصل برؤية الفرد أو الجماعة المعنية لمستقبلها. لايتسع المقام لسرد أمثله تدلل علي ما نرمي إليه, ويكفي في إيجاز أن نشير إلي أن جزءا من رهان إسرائيل في حرب أكتوبر كان علي ان النمط السلوكي العسكري العربي نمط ثابت متكرر لن يتغير! وحين تحررنا من تكراره تحقق لنا النصر بمقدار ذلك التحرر. [email protected]