منذ سنوات وأنا أرى أن كارثة مصر ثقافية بالدرجة الأولى، وأفهم كلمة «ثقافية» بمعناها الواسع الذى يرادف الوعى المجتمعى، ولهذا السبب كتبت كثيرا فى زمن مبارك، مؤكدا ما انتهى إليه تحليلى للواقع الثقافى. وكنت- ولا أزال- أرى فى انتشار أفكار المتطرفين من دعاة الإسلام السياسى علامة على انحدار الوعى الثقافى العام منذ أيام السادات على وجه التحديد، فقد تم إهمال التعليم وتوجيه أجهزة الإعلام فى موازاة التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، والتضييق على القوى الوطنية القومية واليسارية. وذلك فى موازاة تخبط اقتصادى أدى إلى ما نحن فيه من وجود كارثتين متضافرتين: أن ما يقرب من نصف عدد السكان يعيش تحت خط الفقر، ومثله يعانى من الأمية. وأدى ذلك إلى نشوء مجتمع يسهل فيه إشاعة أفكار التطرف، مغلفة بمظاهر خادعة من أشكال الرعاية الاجتماعية والمادية الهادفة إلى الاستغلال والرشوة، فشاعت ثقافة الخرافة واللامعقول فى الثقافة الدينية، والنزعات الاتكالية فى الثقافة الاجتماعية. ومع تزايد إهمال التعليم وعدم تطويره، فى موازاة الانحدار التدريجى للجامعة المصرية، أصبحت الملايين من العقول الشابة جاهزة لأن تغرس فيها أفكار الخرافة والتعصب والتخلف فى آن. وقد لاحظت ذلك فى زمن مبارك، ودعوت لأن تتبنى رئاسة الدولة مشروعا تنويريا لإعادة تثقيف عقول الناس التى غزتها الخرافة والجهالة وأشكال التديين. واقترحت وجود مجموعة وزارية للتثقيف العام، تضم وزارات التعليم والإعلام والثقافة والأوقاف والشباب. وتعمل هذه المجموعة حسب إطار مرجعى، تحدده الحكومة ومؤسسة الرئاسة، ولكن فى خطة تضم المجتمع المدنى، وتتفاعل معه بالقدر الذى يمكن أن يتسع بمدى التأثير ليشمل الوعى المجتمعى فى كل مستوياته ومجالاته. ودعوت إلى أن يكون الإطار المرجعى للعمل هو المبادئ الفكرية الملازمة لحضور الدولة المدنية، وهى- فضلا عن فصل السلطات والدستور- العقلانية بما تفضى إليه من منهج علمى وتشجيع البحث العلمى فى آن، والحرية بما تعنيه من حق الاختلاف وثقافة التنوع والتعدد، فضلا عن حرية الفكر والمعتقد والإبداع، والمواطنة بما تعنيه من تأكيد وجود الدولة المدنية الحقيقية وليست الزائفة، ومن ثم محاربة وتحريم كل أشكال التمييز المباشر وغير المباشر فى الحقوق والواجبات، واستعادة المبدأ الذى أكدته ثورة 1919 عن «الدين لله والوطن للجميع». وكم كتبت، فى هذه الجريدة، أنه لا يعقل أن نعيش فى دولة يزعم حكامها أنها دولة مدنية، ونرى أشكالا من التمييز ترتكب ضد المسيحيين أو ضد المرأة. ولكن لم تكن هناك آذان تسمع ولا عقول تعى. وكنت أظن أن الموقف سيتغير بعد ثورة 25 يناير، ولكن عدم خبرة المجلس العسكرى كانت السبب فى تصاعد العديد من الظواهر التى كانت تعنى إلغاء مبدأ المواطنة من ناحية، والخلط بين لوازم الدولة المدنية والدولة الدينية عمليا وفعليا. وكانت النتيجة أن تكاثرت نقائض الدولة المدنية، وتصاعدت إلى أن أسلم المجلس العسكرى بسلامة طويته، فى أفضل تفسير، مفاتيح مصر إلى الإخوان المسلمين، فكانت الكارثة التى لم نتخلص منها إلا بثورة شعبية، ساندتها قوة الجيش الوطنى الذى أدركت قيادته الأكثر شبابا كارثية ما حدث. وتوقعنا أن يأتى الدستور تجسيدا حقيقيا لجوهر الدولة المدنية. لكن التجسيد كان منقوصا، فقد تحالف السلفيون مع الأزهر على حذف النص على «الدولة المدنية» فى تحديد هوية الدولة، والإبقاء على النص القديم الذى صاغته دولة السادات؛ إرضاءً للإخوان المسلمين كى تكون «مبادئ الشريعة المصدر الأساسى للتشريع»، وهى مادة رفضتها لجنة صياغة الدستور فى تونس، فخرج الدستور التونسى دستورا مدنيا بكل معنى الكلمة بالقياس إلى أى دستور عربى آخر. وقد أدى إمساك العصا من الوسط، فضلا عن كثرة الأيدى المرتشعة فى حكومة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو إلى تزايد ظاهرة الإرهاب. ورأينا تردد حكومة الببلاوى فى معالجة الظاهرة. ولا تزال وزارة محلب لا تختلف كثيرا عن وزارة الببلاوى فى عدم إدراك أننا فى حالة حرب فعلية ضد الإرهاب. ولا انتصار للحكومة فى حرب الإرهاب إلا إذا وعت أولا أنها فى حالة حرب، وقامت بتعبئة كاملة لكل القوى لمواجهة هذه الحرب والانتصار فيها، ذلك لأن الانتصار هو الشرط الأول لإقامة الدولة المدنية وتحقيق أحلام الكادحين فى العدل الاجتماعى والحرية والكرامة الإنسانية. ولكى تتم التعبئة الكاملة للحكومة كى تكسب الحرب، فعلى جميع وزاراتها - أولا- أن تعمل بأقصى طاقاتها، وأن لا توجد وزارة واحدة فاشلة، أو ضعيفة الأداء، أو أن يكون على رأسها من لا هم له إلا تهدئة الأحوال فى وزارته إلى أن تنتهى الفترة الانتقالية. وعلى الحكومة- ثانيا- أن تفعل ما تفعله الدول المتقدمة من إنشاء مراكز أبحاث، مهمتها تقديم الحلول، أو تقديم العون فى مواجهة العدو الشرس الذى نواجهه فى حالة الحرب التى يتساقط ضحاياها يوميا، دون أن تحرك دماؤهم بعض الوزراء الذين تثبت الأحداث المتلاحقة أنهم غير جديرين بمناصبهم. وقد أسعدنى أن أستمع إلى الأستاذ ثروت الخرباوى فى أحد البرامج التليفزيونية، وأن أرى أنه يعانى مثل ما أعانيه وغيرى، ويقترح- فى سياق وعيه بحالة الحرب التى أتحدث عنها- إنشاء مجلس قومى لمكافحة الإرهاب، أسوة بالعديد من المجالس الموجودة حاليا. ولم يقم بتفصيل اقتراحه الذى أوافقه عليه كل الموافقة، وأرى فيه حلا موفقا لما ناديت به كثيرا من تشكيل مجموعة وزارية. ويضم هذا المجلس- فيما أتصور- كل المختصين الذين تتصل تخصصاتهم بالأسباب المؤدية إلى الإرهاب (جهالة وفقرا وخطابا دينيا فاسدا)، وذلك إلى جانب خبراء الأمن والقوات المسلحة. ويقوم هؤلاء المختصون- أولا- بتقديم حلول عاجلة لما تعجز عنه هذه الحكومة، ولكن ينبغى أن يكون تركيزهم الأهم هو صياغة استراتيچية وطنية تحقق لنا النصر النهائى على الإرهاب، وتستأصل أسبابه الراجعة إلى تخلف النظام التعليمى (الدينى والمدنى)، وضياع زاوية الرؤية الصحيحة من وسائل الاتصال والإعلام (كلها أو بعضها) وتقديم الحلول الاقتصادية التى تحول دون أن يصبح الفقر المدقع عاملا مساعدا على الوقوع فى شباك دعاة الإرهاب، والإسهام فى صياغة استراتيچية ثقافية تواجه عمليات التديين وتنوير عقول المواطنين، وتوجيه العمل الشبابى بما يعزز الثقافة الوطنية ويضيف إليها. وبالطبع، لابد من وجود علماء اجتماع وعلماء نفس فى فرق الباحثين، وألا ينسى خبراء السياسة الدولية فى هذه الفرق تحديد الأصابع الخارجية التى تدعم الإرهاب ماليا ومعنويا. وهنا يأتى دور خبراء الأمن القومى والقوات المسلحة لمراجعة كل الأنظمة التى يبدو أن بعضها قد تم اختراقه، أو هو مخترق بالفعل. والحق أنه بقدر حماستى لاقتراح ثروت الخرباوى، وتخيلى لما يمكن أن يترتب عليه، أقوم بتزكية اقتراحه، لعل صوته وصوتى يجدان آذانا مصغية وعقولا مفتوحة. ابتداء من رئيس الجمهورية الذى يعرف قدر احترامى له ولمستشاريه، وليس انتهاء برئيس الحكومة الذى أرجو ألا ينسى أحد من وزرائه أننا فى حالة حرب فعلية خطرة، وتحتاج إلى يقظة وتضحية من أجل مصر التى نفديها بأرواحنا. لمزيد من مقالات جابر عصفور