كل الأحبة يرتحلون فترحل شيئا فشيئا من العين ألفة هذا الوطن نتغرب في الأرض نصبح أغربة في التأبين ننعي زهور البساتين. لم أجد سوي هذه الأسطر التي كتبها المرحوم أمل دنقل في ذكري رحيل محمود حسن إسماعيل تتردد في ذهني عندما تأكدت من صحة الخبر المنشور علي شريط إحدي القنوات الفضائية. لم أصدق في البداية, فحاولت التأكد, وهاتفت الصديق العزيز بشير السباعي, مد الله في عمره, وسألته عن صحة الخبر الذي أكده لي. وحكي قصة صراع قصير غير متكافئ مع المرض الذي فرض عدة عمليات جراحية, كانت الأخيرة منها هي التي سارعت بالنهاية. وعزيت بشير الذي كان صوته مخنوقا من الحزن, وتركته يقاوم رغبة البكاء مثلي, فرحيل لبيب السباعي موجع, خصوصا أنه جاء في سياق موت إبراهيم أصلان وعبدالرحمن أبو عوف وخيري شلبي إلي آخر قائمة الفقد التي لا تنقطع. وتذكرت صوت لبيب السباعي علي الهاتف قبل دخوله المستشفي بيوم أو يومين. وكان يحادثني عن ضرورة بناء صحافة نظيفة راقية, تتميز بالحرفية والمهنية والخطاب الثقافي الراقي الذي هو مكون أساسي من مكونات الصحافة المحترمة. لا فرق في ذلك بين صحافة حكومة أو معارضة. وعندما حدثته عن المصاعب والتحديات واختلاط الأحوال والقيم في الوقت الذي لا يزال يفصلنا عن حلم اكتمال ثورة يناير, خصوصا بعد أن أصبحنا نعيش في امتداد الكابوس لا الحلم, لم يوافقني ومضي يحدثني عن ما يؤمن ويحلم به, عن إمكانات المستقبل ووعوده, وعن إمكان تحقيق ما يبدو الآن مستحيلا, وتركته في تفاؤله الذي ظللت أعرف حضوره الأبدي في شخصيته التي لم أكف عن حبها والثقة فيها منذ عرفته بعد سنوات معدودة من تخرجه من قسم الصحافة بكلية الآداب وعمله في جريدة الأهرام بعد ذلك. ولا أزال أذكر أن عام تخرجه هو عام1967, ضمن دفعة كنت أشترك في الرقابة علي امتحاناتها التي اضطررنا إلي إيقافها عقب انتهاء امتحان يوم الخامس من يونيو الذي حدثت فيه بداية الهزيمة الكبري. ولم أر لبيب إلا بعد ذلك بسنوات. وكان قد تم تعيينه في زمن هيكل الذي ظل لبيب وفيا له, وعارفا بفضله وإنجازاته العظيمة. وعاد لبيب إلي التردد علي آداب القاهرة مع مطلع السبعينيات, ولكن هذه المرة بسبب والده الأستاذ صلاح السباعي الذي كان عاشقا حقيقيا للمعرفة بكل أنواعها, ولعله حاول الكتابة الأدبية التي لم تخل من انجذاب إلي الشعر العربي في عصور ازدهاره. وهو الأمر الذي دفعه إلي أن يصبح طالبا منتسبا في قسم اللغة العربية التي حرص علي دراسة آدابها وتراثها دراسة منهجية. ولم يكن صلاح السباعي- والد لبيب- شخصية عادية, وإنما شخصية جذابة, غنية بثقافتها وثرائها الإنساني. ولذلك اجتذب إليه أساتذته الكبار والصغار من أمثالي, فأصبحت صديقا للرجل ومعجبا بابنه لبيب الذي تخرجت قبله بعامين, واخترت الطريق الأكاديمي بعد أن أصبحت معيدا, بينما اختار لبيب العمل الصحفي, مؤثرا التخصص في مجال بعينه, وهو التعليم. وبالفعل أصبح محررا في شؤون التعليم في جريدة الأهرام. ولم يكن اختياره هذا المجال اختيارا عشوائيا, وإنما اختيار مقصود, فقد ظل لبيب مؤمنا بأن التعليم هو قاطرة التقدم لأي شعب من الشعوب. ومن الطبيعي أن يؤمن بذلك وهو خريج كلية طه حسين الذي كتب عن مستقبل الثقافة في مصر الذي وصله بتحديث وتطوير التعليم. وكان طبيعيا أن يقيم لبيب صلات بقيادات جامعة القاهرة الواقعة في دائرة اهتمامه المهني, وأن يعرج علي كليته كثيرا كي يلتقي بأبيه الذي لم يكن ينقطع عن التردد علي كلية الآداب, وعلي قسم اللغة العربية الذي أصبح طالبا منتسبا فيه, وصديقا لأغلب أساتذته. وكان ذلك بداية معرفتي به, وإعجابي بالعلاقة الجميلة بين الأب ووحيده, فما أذكره أن لبيب كان وحيد والده وقرة عينه. وكانت العلاقة بينهما أقرب إلي العلاقة بين أصدقاء أكفاء منها إلي العلاقة التقليدية المتزمتة بين الأب- السلطة والابن الخاضع لها. وكنت مفتونا بالأفق الليبرالي المنفتح في حوارات الأب صلاح ووحيده لبيب. ويبدو أن هذا الأفق هو الذي تميزت به علاقة صلاح بشقيقه بشير السباعي الذي أصبح واحدا من أقدر المترجمين وأبرزهم, سواء في النقل من الفرنسية أو الإنجليزية إلي اللغة العربية. ولم يكن بشير مثل صلاح ليبراليا بالمعني العام وإنما كان ماركسيا بالمعني الخاص. ولكن الاختلاف الإيديولوجي لم يفسد مشاعر الود والمحبة الغامرة والاحترام المتبادل لحق الاختلاف بين الشقيقين. ويبدو أن هذا الأفق المفتوح وروح التسامح الفكري واحترام الاختلاف هو النبع الأول الذي نهل منه لبيب ما أسهم في تأصيل شخصيته الفكرية منذ البداية, فكان عقله ليبراليا سمحا, مفتوحا, مرنا, أفاد من ثقافة عمه بشير الموسوعية, وتعدد اهتماماته الإبداعية والفنية. ولذلك كانت مكتبة عمه زاده المعرفي الأول, وثقافة عمه وقدراته الحوارية السمحة هي التي زرعت الكثير من الأسئلة التي أثمرت غيرها في عقل لبيب الذي رأي في عمه نموذج الأستاذ والمثقف الاستثنائي الذي يدين له بتلمذة ظل يفخر بها, ويفخر بأن عمه لم يفرض عليه فكره, ومنحه إمكان النمو العقلي الحر والمستقل في آن. ولا أزال أذكر جلستي الأخيرة مع لبيب السباعي, وما أخذ يتداعي علي ذهنينا من علاقات الزمن القديم, والعلاقة بين عمه وأبيه وبينهما وبينه, فذكر لبيب والده بالرحمة والحنو وحرصه علي تكوين شخصية مستقلة له, لم يفرض عليها رأيا. وعندما انتقل الحديث إلي عمه بشير, صاح لبيب في اعتزاز, لا تخل كلماته من الحب والعرفان, قائلا: عمي أستاذي الذي أدين له بالكثير معرفيا. وعندما هاتفت بشير السباعي في المساء, حدثته عن قصيدة المدح التي قالها لي صديقي ابن اخيه, وخجلت من أن أقول له لقد كنت أحترمك يا بشير لخصال أعرفها فيك شخصيا, ولكن ابن أخيك أضاف لي خصلة أخري لم أكن أعرفها. وكان الله في عونك وعوننا علي تحمل فقدان هذا الإنسان الجميل الذي سرقه منا موت غادر: لا نملك أن نقول إزاءه سوي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وبالفعل كان لبيب إنسانا جميلا بكل معني الكلمة. مخلص لأصدقائه وعمله الذي ظل يأخذه بكل الجدية والإخلاص. وفي لمجموعة القيم التي جعلته يري التفاني في العمل الوجه الآخر للصدق مع النفس أولا. ولذلك لم يقبل لبيب علي عمل إلا بعد أن يقتنع به, ولم يعرف صديقا إلا وظل وفيا له. ولم يؤمن بمبدأ إلا وظل حافظا له. أذكر زيارتي الوحيدة له في مكتبه بالأهرام, إذ لم يلفت اهتمامي- بعد صورة ابنه وابنته- سوي لوحة خطية, فيها بيت للإمام الشافعي, معناه لا تقل إلا ما تؤمن به, وإذا وضعت في مقام لا ترضاه, فلا تقل شيئا, واكتف بالصمت, فالصمت هو الأجدر في مجالس حكام الجور ورجاله, وحدثني لبيب عن هذه اللوحة التي تنقلت معه في كل مكتب شغله, تاركا لي إدراك المسكوت عنه, والذي أنطقه أنا بعد وفاته, مؤكدا أن لبيب السباعي الذي عرفته لم أعرف عنه نفاقا أو مديحا لمن لا يستحق, فقد ظل الصدق صفة أساسية في شخصيته, والإخلاص للعمل والتفاني فيه صفة مكملة. ولهذا أحبه زملاؤه- واختاروه رئيسا لمجلس إدارة الأهرام, فبذل في منصبه الكثير من جهده الذي أثمر نتائج لا تزال ملموسة, وعندما ترك المنصب احتفي به زملاؤه, وظلوا علي احترامهم ومحبتهم له, فلهم العزاء جميعا, وأخص منهم الزوجة الوفية التي أدعو الله أن يسبغ عليها الصبر لتحمل الألم. أما أنا الذي عرفت لبيب السباعي وأصبحت صديقا له منذ مطلع السبعينيات, فلا أجد في رأسي سوي بقية ما افتتحت به كلامي من أبيات أمل دنقل التي أكملها بقوله الذي يبين من حالي: لا نتوقف في صحف اليوم إلا أمام العناوين نقرؤها دون أن يطرف الجفن.. سرعان ما تفتح الصفحات قبيل الأخيرة. ندخل فيها نجالس أحرفها.. فتعود لنا ألفة الأصدقاء وذكري الوجوه... هذا هو العالم المتبقي لنا إنه الصمت.. والذكريات, السواد هو الأهل والبيت.. إن البياض الوحيد الذي نرتجيه.. البياض الوحيد الذي نتوحد فيه.. بياض الكفن. المزيد من مقالات جابر عصفور