الجامعات فى أزمة، والأزمة الحقيقية ليست فى المظاهرات وما يتبعها من أحداث مؤسفة، هذه الزوبعة ستنتهى عاجلاً أو آجلاً الأزمة هى أن الطلاب لا يشعرون بحزن حقيقى لما يحدث وكأن الأمر لا يعنيهم. الأزمة الحقيقية بدأت منذ مدة طويلة، منذ أن فقد الطلاب بالجامعات الحكومية انتماءهم لجامعاتهم، وأن أحداً لم يستمع للطلاب يوما بجدية، بعيداً عن السياسة هناك إنسان طيب فى كل طالب، إنسان لم يلتفت إليه أحد، إنسان يموت كل يوم بالتدريج، بعيداً عن السياسة هم مكدسون بالمئات فى قاعات لاتتسع سوى لعشرات، تنعدم فيها مظاهر الجمال واحترام الإنسان، ويستخدمون دورات مياه تعف نفس المرء عن المرور أمامها، ويسكنون فى مدن جامعية تتميز بالقبح الشديد وفقر المرافق بدءا من فيشة الكهرباء بالغرف الضيقة حتى الكافتريات السوقية المقرفة، الأزمة أن هناك أجيالا من الطلاب توارثت الوقوف مرتعدة أمام أساتذة يؤلهون أنفسهم ويرفضون النقد أو الاعتراض، بعيداً عن السياسة هناك أيضاً أساتذة على مستوى فكرى وعلمى رفيع يعانون التهميش ويشعرون بالإحباط لتقليص دور العلم والعلماء فى الدولة. وهناك جامعة تئن تحت وطأة جهاز بيروقراطى مكبل بلوائح وقوانين إدارية حلزونية بالية صممت لإتعاس البشر، بعضها مضحك إن لم يكن سفيهاً، جهاز لايدع فرصة للقيادات الجامعية أن تعمل لما جاءت من أجله بالأساس: العلم والتخطيط الاستراتيجي. هم منكبون على ملفات ومستندات وتوقيعات لاتنتهي، البيروقراطية تأكل حياتهم وتنهك قواهم وتبدد أوقات عملهم الطويلة، وأى خطأ قد يعنى مساءلة قانونية لايعلم مداها إلا الله. وتفجير هذا الجهاز الإدارى لإنشاء آخر سليم يعنى قتل المريض بهدف الحفاظ على حياته، إن هذا الجهاز هو أكبر عائق أمام الجامعة للقيام بدورها. ماذا قدمت جامعاتنا مثلاً فى السنوات العشر الأخيرة للمصريين؟ الجامعة مؤسسة ضخمة، والمؤسسات الضخمة كالدول. تسقط هيبتها عندما تعجز عن أداء وظائفها، عندئذ يتطاول عليها السفهاء من داخلها ومن خارجها، وهذا العجز أدى إلى تردى الأحوال العلمية والتعليمية وزيادة البطالة بين خريجيها، وعدم إقبال السوق المحلى والدولى عليه، بخلاف ما كان عليه الأمر منذ عقود قليلة سبقت، وأدى هذا بدوره إلى شعور الشباب بأن حياتهم تضيع سدى لأن قيمتهم صارت صفراً فى سوق العمل. وكذلك قصرت الجامعة فى تطوير دورها الثقافى وتركت الباب مفتوحاً للأفكار الدينية المتطرفة والسياسية المختلة حتى وصل بنا الأمر لمهزلة غير مسبوقة فيخرج شباب ضال يهتف ضد جيش بلاده الوطني، هل هناك جنون أكثر من هذا؟. علينا أن نفكر خارج الصندوق فورا أولاً: لابد أن تتفرغ القيادات الجامعية بكل مستوياتها للعلم والتعليم فقط وتتاح لها الفرصة أن تجلس وتتأمل وتدرس وتخطط بهدوء وبدون إجهاد أو توتر وتكثف التواصل والتبادل مع الجامعات والمراكز البحثية الدولية، أى أنه لابد من فصل المهام الإدارية فصلاً تاماً عن القيادة العلمية الجامعية ويتم تفويض آخرين بهذه المهام. ثانياً: يتم العمل من الآن على إنشاء «الفرق الذكية» التى تدير كل مايمكن إدارته عن طريق الإنترنيت لتوفير الوقت. وثالثاً: إنشاء وحدة «الإصلاح الإداري» لرصد الأزمات البيروقراطية التى يتسبب فيها سفه أو تضارب اللوائح والقوانين وعلاجها. لابد ألا يأتى الحل هذه المرة من وزارة الداخلية، لكن من الجامعة، قبل أن ينهار المعبد على كهانه ومريديه، ولنتذكر دائماً أن كيانات الفكر لا تنهار بدون إرادة منها، واعية كانت هذه الإرادة أم غير واعية. كلية الألسن جامعة عين شمس لمزيد من مقالات د. طارق عبد البارى