فى صباح أحد الأيام الشتوية الجميلة وتحت رذاذ المطر الخفيف فوجئ سكان باريس بعربة قطار أنيقة ولكنها قديمة بدا أنها خارجة من آلة الزمن وقد وصلت لتوها لتقف فى ساحة معهد العالم العربى على نهر السين بقلب باريس ، فتجمع حولها الفرنسيون وبعض السياح لإلتقاط الصور, كما إجتذبت بعض الفنانين لرسمها ، فتبينوا أنها إحدى عربات قطار الشرق السريع الأسطورى ، ولكن السؤال الذى طرح نفسه على الجميع «هو ماذا تفعل العربة القديمة التى خرجت من الخدمة منذ ما يقرب من 37 عاماً فى هذا المكان «؟
الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان جاك لانغ مدير معهد العالم العربى الذى قال إنه أخيراً وبعد غياب ما يقرب من 37 عاماً عاد قطار الشرق السريع أو ( لوريون اكسبرس) الى الظهور من جديد ، ولكن هذه المرة فى ساحة المعهد من خلال معرض ينظمه المعهد بعنوان «كان يا مكان ... قطار الشرق السريع» بالتعاون مع الشركة الفرنسية للسكك الحديدية وذلك فى إطار التحضير لإطلاق أفخم قطار للرحلات فى أوروبا بحلول العام 2020.
ومن المقرر أن يستمر المعرض الذى بدأ فى الرابع من إبريل حتى نهاية شهر أغسطس 2014 ، وأضاف لانج أن المعرض يمتد على مساحة 800 متر مربع ويعرض قاطرة بخارية وثلاث عربات ركاب وعربة تضم مطعما من القطار الشهير الذى كان يربط العواصم الأوروبية بإسطنبول ... وهذه العربات تعود إلى العشرينيات وهى مدرجة فى قائمة التراث التاريخى ... ومن خلال هذا المعرض سيتمكن الزوار من الغوص والسياحة داخل التاريخ لمتابعة انهيار السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية وبداية الثورات العربية وبزوغ نجم جمال عبد الناصر بالإضافة الى إنشاء الدولة الإسرائلية وسيعرفون الكثير عن رغبة السلطان العثمانى عبد الحميد الثانى فى إنجاح مشروع القطار الذى سيجعل أراضى دولته ترتبط بالدول الصناعية، وهو أمر ما كان يمكن تحقيقه لولا مساعدة القيصر الألمانى فيلهلم الثانى .
وأكد أن قطار الشرق السريع قام باول رحلة له من باريس إلى إسطنبول فى 4 أكتوبر 1883 وقطع مسافة 3050 كم فى 81 ساعة ونصف الساعة ولكنه فى فترة من الفترات وصل إلى بغدادوالقاهرة. وأضاف مدير معهد العالم العربى أن هذا القطار الفخم كان حلماً من أحلام المهندس البلجيكى جورج ناجيلميكرز مؤسس الشركة الدولية لقطارات النوم والذى كان من امنياته أن يبنى قطار سريع يعبر حدود الدول ويسمح لركابه بقدر كبير من الخصوصية والرفاهية من خلال تقسيمه الى دواوين أو حجرات منفصلة للنوم تسمح للراكب بالتصرف بمنتهى الحرية ، وهو ما تحقق له فى هذا القطار الذى أشرف على تنفيذه وإستدعى له أشهر المصممين والفنانين فى العالم وإستخدم فى تصنيع عرباته ومقاعدة وأسرته ومناضده وكل قطعة فيه أجود الخامات العالمية من أقمشة وجلود وزجاج وكريستال لتنطلق رحلته الاولى من باريس الى إسطنبول وعلى متنه عدد من الصحفيين والكتاب والامراء الذين تحدثوا طويلاً عند عودتهم عن فخامة وأناقة هذا القطار الأسطورى الذى صار حديث المجتمعات المخملية بإعتباره القطار الذى يربط الغرب بالشرق ويتيح للمستكشفين والمغامرين والأثرياء إستكشاف بلاد الف ليلة وليلة فى جو من الفخامة والخصوصية الأسطورية ... بإختصار وعلى حسب تعبيرهم فإن قطار الشرق السريع هو خليط من المغامرات والإثارة والسعادة والتميز حتى قيل إن هذا القطار الذى أصبح ثورة فى عالم التنقل قد نقل «البوسفور» ليصبح فى أحد ضواحى باريس أو حتى يجاور نهر «السين».
وبعيداً عن أساطير الشرق وحكايات الف ليلة وليلة فقد فتح هذا القطار الباب لتحقيق التواصل الصناعى والتجارى والثقافى بين أوروبا ودول الشرق وكان بداية لدخول مرحلة جديدة من التواصل العالمى وفتح الباب أمام سياحة سريعة وأنيقة وبلا حدود .
ويقول جيل جوتييه المستشار العلمى للمعرض أن قطار الشرق السريع كان يقطع الطريق الى بغداد فى ثمانية أيام والى القاهرة فى سبعة أيام وهكذا كان يعبر ثلاث قارات هى أوروبا وأسيا وإفريقيا فى رحلة واحدة فقد كان يربط بين لندن وباريس وبوخارست وأثينا بإسطنبول ومنها إلى دمشق وحلب والقدس والإسكندرية والموصل وبغداد ، وكان صاحبه جورج ناجيلميكرز يحلم بربط شمال إفريقيا بأسبانيا وإيطاليا ليتمكن القطار من المرور بدول البحر المتوسط فى 11 يوما ولكن توقفت تلك المشروعات بسبب الحرب العالمية ويحكى أن المسئولين عن القطار إضطروا للإنتظار عدة أعوام حتى سمح لهم شاه إيران بمد خط طهران – إسطنبول وإن عام 1914 شهد إنتعاشة كبيرة فقد تم مد الشركة ب 57 قطارا جديدا على الخط القديم وخط المغرب والقاهرة – الأقصر مما نتج عنه إنتعاشة سياحية لهذه البلاد وتطور إقامة مشروعات الفنادق الفاخرة لإستقبال ركاب هذه القطارات مثل فندق « ونتر بالاس « بالأقصر ، كذلك تم تشغيل خط تونس عام 1902 بعنوان « القطار الابيض « ولكنه لم يستمر أكثر من 16 شهراً .
وتقول جاكلين تاتييه التى وقفت تنتظر دورها لدخول القطار فى طابور طويل لأكثر من ساعتين : إن فكرة عرض هذا القطار رائعة وتحمل الكثير من الذكريات الجميلة فعلى ما يبدو أن الحياة فى القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت رائعة ومثيرة لمن يملكون المال أكثر من وقتنا الحالى وقد سعدت بمشاهدة غرف النوم التى كان يقيم بها المشاهير على متن هذا القطار مثل الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستى التى كثيراً ما كانت تركبه فى طريقها الى زوجها عالم الأثار فى العراق والجاسوسة الهولندية ماتا هارى ، كما إستمتعت بمشاهدة الغرفة التى دارت فيها جريمة القتل التى كتبت عنها أجاثا كريستى فى روايتها «جريمة فى قطار الشرق السريع» والتى وضعوا فيها جثة مزيفة للإيحاء بجو الجريمة بالإضافة الى مشاهدة الوثائق والصور التى تحكى الكثير عن هذا الزمان . أما محمد بن زيدون فيقول إن أكثر ما أعجبه هو طريقة العرض لمقتنيات المشاهير داخل القطار خاصة المقعد الخاص بالفنانة «أسمهان» والقفاز الخاص بها وعلبة سجائرها وغرف لعب الورق لوجهاء هذا الزمان وأصحاب اللقاب الرفيعة والبيانو القديم وغرف النوم الأنيقة رغم صغر حجمها بالإضافة لأناقة القطار وجمال أدوات الطعام والأطباق والأكواب الخاصة به كذا مجموعة الحقائب القديمة المعروضة والتى توضح الأشكال القديمة لحقائب السفر الضخمة والتى شاركت إحدى شركات الحقائب القديمة بعرضها وخاصة الحقائب التى كان يتم تصنيعها خصيصاً لركاب هذا القطار .
وتقول سليمة بن سلمان إن المعرض ينقسم الى جزءين الأول هو القطار بعرباته الثلاث والذى ينقل الزوار الى عالم ساحر قديم ليشاهدوا الغرف والمقاعد والحمامات والمطابخ والبار وغرف الصالون والثانى هو معرض الصور والوثائق والخرائط وكل ما يخص هذا القطار من قوائم طعام وتذاكر قديمه وأسماء وصور أشهر من سافروا على متنه مثل ليوبولد الثانى ملك بلجيكا الذى كان يلتقى بعشيقته «كليو دى ميلود» على متنه وفرديناند الأول ملك بلغاريا الذى كان يعشق ركوب القطارات .. أما أكثر ما شدنى هو تأكيد القائمين على المعرض على أن أهم شخصية على متن القطار كان سائق القطار أو مديره الذى كان يتولى إستقبال الركاب بنفسه وتلقى طلباتهم والعمل على تنفيذها، كما كان يقوم بجمع جوازات السفر فى حال عبور حدود الدول بالليل ليقدمها للمسئولين بنفسه حتى لا يتم إزعاج الركاب ولذا تم تكريم بعضهم بعرض ملابسهم الرسمية الأنيقة وبطاقاتهم الشخصية .
كما قام المعرض بتخليد بعض الأحداث مثل الحادثة الى تسببت فى توقف القطار بركابه بضعة أيام بسبب الثلوج فى تركيا مما ألهم أجاثا كريستى روايتها وقد إنتهت أسطورة قطار الشرق السريع بسحبه من الخدمة عام 1977 ولكن الشركة الفرنسية للسكك الحديد التى تمول المعرض تتوقع أن يستقبل «500 ألف زائر على الأقل» وذلك فى إطار التحضير لإطلاق أفخم قطار للرحلات فى أوروبا بحلول عام 2020 على غرار قطار الشرق السريع ولكنه بلا شك لن يطاوله سحراً ..حتى أنه أطلق عليه قطار الملوك وملك القطارات ... ذلك القطار الذى خرج من رحم حلم أسطورى ليسير بسرعة 100 كم فى الساعة ليشهد سقوط ممالك ويفتح عوالم جديدة ويشع بالسحر والسعادة على كل القضبان التى جرى عليها.