في عام 1969 صدرت رواية «حمام الملاطيلي» لإسماعيل ولي الدين. من فاتته الرواية شاهدها فيلما أخرجه صلاح أبو سيف، ولم تحرم الأجيال التالية مشاهدة الفيلم العابر للزمن، المختبئ في أشرطة الفيديو، في جلسات سرية، ليس لجودته وإنما للتلصص على جسد السيدة شمس البارودي نجمة الإغراء. نسي القراء إسماعيل ولي الدين، ولم يحزن الرجل على ذلك، وربما لم ينتبه، إذ استبدل بهم جمهور السينما، وكانت «رواياته» تنتقل من سخونة المطابع إلى أشرطة السينما، عبر أكثر من 20 فيلما لأجيال جديدة من ممثلات الإغراء.. «الباطنية» لنادية الجندي، و«أبناء وقتلة» لنبيلة عبيد وإخراج عاطف الطيب، «حارة برجوان» لنبيلة عبيد وإخراج حسين كمال، و«درب الهوى» ليسرا ومديحة كامل وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز، و«الوحوش الصغيرة» لسهير رمزي وهياتم. في القاهرة نشأت دار نشر، واستوى عودها اعتمادا على «روايات» إسماعيل ولي الدين، وقال لي صديق منذ سنوات إن ولي الدين كان ينشر المسودات؛ فلا وقت لديه لإعادة النظر في ما يكتب، فالمثل يقول «حسن السوق ولا حسن البضاعة». الآن، وقد هدأ غبار المطابع، وضجيج عجلة السينما، انزوى اسم ولي الدين، حتى إن أحدا لا يعرف الآن أين هو؟ وما إذا كان لا يزال على قيد الحياة. أفلام المقاولات والآداب التجارية وآلة الإعلام أيضا، أدوات جبارة، يلزمها حطب كثير لاستمرار اشتعال الفرن، وتوهج الطابونة لإعداد أطعمة تحتاجها السوق. هذه الوسائل الرأسمالية بلا قلب، مستعدة للتضحية بأي ترس كان يوما سببا في انتعاشها، فالجمهور يمل، ويبحث عن وجه طازج ليستهلكه، ثم يهمله مثل خيل الحكومة التي يستكثرون عليها الرحمة وإلقاء السلام. ففي التسعينيات قدم ضابط الشرطة طارق علام برنامجا تليفزيونيا حظي بانتشار جماهيري واسع، نصحني أصدقائي بمشاهدته، وأغروني بأن الشاب خفيف الظل يحنو على الفقراء. تابعت برنامجه «كلام من دهب»، ونفرت منه ومن مذيعه الضابط الذي يهين المحتاجين بإذلالهم، واستخدامهم كمادة استعمالية لبرنامجه الممول من رجال المال، وفوق هذا يتعمد أن يكون ظريفا وهو ليس كذلك، وألا يكون الإنسان خفيف الظل فهذا ليس عيبا، وإنما الخطأ والخطر هو الادعاء والتمثيل على الناس، وهو أدرك أن نجمه يأفل، وأن الآلة الرهيبة ربما تبحث عن وجه جديد لم يستهلك، فانتقل بفائض الاستعراض إلى التمثيل، وأنتج ثلاثة أفلام قام ببطولتها ولم تنجح، لأن جمهور السينما لا ينقصه أن يشاهد ممثلين يمثلون عليه، فطويت صفحة طارق علام. في التسعينيات أيضا هبطت مذيعة اسمها نرفانا إدريس على التليفزيون المصري، وشغلت الناس، واحتلت أغلفة المجلات. واكبت حضورها عاصفة إعلامية، حملتها جوا من الكويت إلى القاهرة، من «صباح الخير يا كويت» إلى «البيت بيتك»، وش قفص التلفزيون المصري، اهتماما وفلوسا ونفوذا. لا أظن أحدا يعنيه الآن أمر نرفانا، أو أخبارها. ولا يريد باسم يوسف أن يعتبر بإسماعيل ولي الدين، وطارق علام، ونرفانا إدريس، ثلاثة نماذج لحطب تحرقه أفران الإعلام، من غير رحمة، وتقول: هل من مزيد؟ نسفت ثورة 25 يناير وجوها قديمة، وأقصت أدعياء من النجوم، لأنها ثورة ضاحكة، نجومها هم شباب الجامعات المنتمون للطبقة الوسطى، وفقراء من أهالي الضواحي لم تتوقف أمامهم الفضائيات، ولا انشغل بهم الطامعون في كرسي الحكم. ثوار مصر واجهوا الدولة البوليسية ولا يزالون بسخرية أخف ظلا من الحلقات الأخيرة في (برنامج) باسم يوسف وهو من مكاسب الثورة، ويأتي بعد الساخر سامح سمير، نجم الفيسبوك بلا منازع تقريبا، يساعده على ذلك لمحات ذكية، وتسعفه لغة رشيقة يكتفي بها سامح سمير. ولكن باسم يوسف كان أكثر ذكاء، إذ حقق قفزات خاطفة، نقلته من تواضع إمكانات قناة شخصية على يوتيوب، إلى أضواء فضائيات رجال المال، وتجهيزات ستوديوهات ثم مسرح راديو، ومعه عدد غير مسبوق من فريق الإعداد. باسم يوسف طاقة كوميدية. كان يعرف قدره ولا يدعي أنه مفكر، لم يرفض وصف نفسه بأنه مهرج، أراجوز. ولعله لا يعي أن الجمهور يقبل المهرج الأراجوز بملابس العمل في عرض هزلي، يصفق له على المسرح، فإذا خرج إلى الشارع بملابس المسرحية، «عدة الشغل»، اتهمه باختلال العقل. كانت القوى المدنية تتفق إلى حد كبير مع توجهات «البرنامج» طوال عام الإخوان في الحكم، إذ لخص (البرنامج) بإيجاز احترافي ادعاءات اليمين الديني في برامج تليفزيونية لا علاقة لها بالدين، وإنما بما يراه رجال الدين أصحاب هذه الفضائيات، «سياسة». أدرك الشعب أن هؤلاء من رجال المال، ولا يختلفون عن رجال مبارك إلا في ارتداء الجلابيب وإطلاق اللحى، فقط تغيرت «عدة الشغل»، وفقد الناس الثقة بالإخوان وأنصارهم من جماعات اليمين الديني.. سلفية وهابية أو إرهابية صريحة يسمونها «جهادية». واستعاد المصريون روح «الدين الشعبي» الذي يتسامح مع المختلف في الدين والمذهب. الشعب الذي اكتشف أن الإخوان خدعوه ربما كان في لا وعيه أن (البرنامج) وسيلة ضاغطة، تسهم في تقصير عمر الإخوان، والإجهاز عليهم سلميا بسلاح السخرية. كان (البرنامج) إذا استعرنا خطاب اليمين الديني هو «كشف العورة»، ولكن باسم بعد انتهاء المهمة توقف طويلا، ثم عاد وقد تغير المزاج العام، فانقسم محبوه، وحشد الحمقى بعض البسطاء أمام المسرح اعتراضا على (البرنامج)، واتهموا مقدمه بالعمالة، وهذا لا يليق! لم يدرك باسم يوسف أن التعاقد مع أي قناة يخضع لمبدأ المنفعة، «مجرد تعاقد» يحق لأي طرف أن يعيد النتظر فيه إذا مست هذه المنفعة، ولا يكون الإنسان حرا إلا في بيته، في قناة على يوتيوب، وهذا يفسر انتقال (البرنامج) من قناة يملكها رجل مال، إلى أخرى يملكها رجل مال آخر، إلى ثالثة وراءها بلد نفطي. في عهد قناة يوتيوب كان حرا يستند إلى غضب شعبي يواجه به أي سلطة، وفي قنوات رجال المال يخضع الأمر لمراجعات وحسابات وتوازنات، لا تقل تعقيدا عن تداخل شبكات المال في السياسة، ولهذا السبب، وبدلا من أن يناقش المنتقدون ما يذيعه (البرنامج)، حاسبوه عما لم يقله، وتحدوه أن ينتقد دوائر وشركات رجال المال، ومن بعدهم سياسة البلد النفطي. يمكن تقبل (البرنامج) لولا أن صاحبه أعد لنفسه منصة أخرى، وصدق نفسه، وخرج من المسرح بملابس المهرج إلى الشارع. في المسرح يمكن أن يكسر الممثل إشارة المرور، وفقا لدراما العرض، وفي الشارع لا تسامح في هذا الأمر. لكل فن روح ربما يرفضها الفن الآخر. كان أحد كتاب السيناريو المرموقين في مصر يكتب مقالا يحتاج قارئه إلى مجاهدة لإكماله، هو نفسه القارئ الذي لا يمل مشاهدة أفلامه ومسلسلاته التليفزيونية، حتى حين أصدر كاتب السيناريو رواية لم يعرها القراء انتباها، فللإبداع الكتابي روح أخرى لا يملكها بالضرورة كاتب يمتلك ناصية فن آخر. مقالات باسم يوسف تنتمي إلى سيناريو (سكريبت) البرنامج الذي أحرص على متابعته، ويضحكني ضحكا كالبكا، وهو يرصد مفارقات غير منطقية، وحماقات يرتكبها أهل الحكم وغلمانهم، أيا كانت السلطة في مصر. ولكن «الكتابة» فن آخر، وروح أخرى لا يطالها باسم يوسف الذي تخلو مقالاته من المتعة ومن الجمال، ولا تقرأ إلا بكثير من المجاهدة، لكي تعرف فقط الرسالة، «ماذا» يقول، وليس «كيف» يقول. ولو كان الرجل مشغولا بفنون الكتابة، وأصابته حرفتها ما انتظر حتى هذا العمر لكي يبدأ الكتابة، ويتخذ هيئة المفكر الحكيم الذي يكتب عن أشياء وقضايا معقدة، من حد الردة وعبثيته، إلى الأزمة الأوكرانية. ربما يظهر نابغة آخر، غير ذبياني، ولكن التصدي للقضايا الكبرى أو الصغرى لا يحدث فجأة، ولا يخضع لحسن النية. لا بد من رصيد من البحث يؤهل صاحبه لجرأة التصدي لقضية ما. قبل أن يصدر الدكتور نصر حامد أبو زيد كتابه «مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن» سبقته دراسات كثيرة متفرقة، تؤكد انشغاله بهذا الأمر، فيأتي الكتاب أصلا منتميا إلى كاتبه. الجماعة الثقافية كيان يشبه الجيتو، وهو ليس جيتو. أهل الكتابة/الكتابة يستغنون بها عن الشهرة، وتمنحهم جمالا نابعا من إنسانية الإبداع، ويعصمهم هذا الشعور أن ينظروا بحسد إلى آخرين أكثر حظا في الشهرة والأموال والأولاد، وربما لهذا السبب يتمحك بعض الحكام في «الكتابة». فعلها القذافي في أشياء أطلق عليها قصصا قصيرة، ونظمت لها ندوات في معرض الكتاب بالقاهرة، وفي ليبيا أيضا حشد مثقفون عرب، بالترغيب وحده، للإشادة بخيال الزعيم موهبته، ولجأ إلى ذلك أيضا صدام حسين حين نشر أشياء قيل إنها روايات. لم يذكر لي أحد من كتاب جيل الستينيات أنه رأى إسماعيل ولي الدين في ندوة، أو انتمى إلى «الجيل». انشغل الكتاب الحقيقيون بنصهم الإبداعي، على مهل جربوا ونجحوا، صبروا على «الكتابة» حتى تنضج، في حين كان إسماعيل ولي الدين ينشر مسودات «رواياته»، وهم لا يأبهون للشهرة، وبعده بسنوات صدرت أعمالهم الأولى.. «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، «أنا وهي وزهور العالم» و«الأشياء القديمة صالحة لإثارة الدهشة» ليحيى الطاهر عبد الله، «الليل الرحم» لمحمد روميش، «الخطوبة» لبهاء طاهر. لم تشفع لإسماعيل شهرته، ولا لغيره ثروة عاد من بلاد النفط، وتفرغ لإصدار أعمال غزيرة، يستجدي بها الاعتراف. لا تتقبل الجماعة الثقافية الهابطين بالمظلة، ولا تعترف بهم إلا «ساقطي قيد»، أو أبناء غير شرعيين، من باب الشفقة. في أوخر الثمانينيات نشأنا ونحن نحاول الكتابة، نسعى لفهم أسرارها وحل ألغازها، نتعثر ثم ننهض لنتعثر من جديد، نرتبك ثم يساند بعضنا بعضا، لكي نكتسب الثقة بما نكتب. في الندوة الواحدة تجد من الشعراء: إيمان مرسال ومؤمن أحمد ويسري حسان ومجدي الجابري، ومن كتاب القصة، ولم نكن لنجرؤ على الادعاء بكتابة رواية، تجد: إبراهيم فهمي وخيري عبد الجواد وسيد عبد الخالق (رحمهم الله) وعبد الحكيم حيدر وصفاء عبد المنعم وعبد المنعم الباز، ثم هبط علينا عائدون من الخليج، بكتب مطبوعة في ورق مصقول يصيبنا بالريبة، وقد مضى ربع قرن وهم يسعون للحصول على «الاعتراف». كان على باسم يوسف أن يحتفظ بملابس المهرج في (البرنامج)، وهو دور عظيم، بدلا من ارتداء ثياب أخرى أكثر اتساعا توقعه في حرج، حتى إنه حين اتهم بسرقة/اقتباس مقال «لماذا لا يهتم بوتين» (صحيفة «الشروق» 18 مارس 2014) دافع عن نفسه بكلام يؤكد التهمة. في يوم النشر وضع المقال في صفحته على تويتر، وفي تغريدة لاحقة كتاب بالعربية والإنجليزية: «اليوم نادية تمت سنتين»، نادية ابنة باسم، وفي اليوم التالي 19 مارس كتب اعتذارا يدينه: «يوم الثلاثاء هو أصعب أيام الأسبوع بالنسية لفريق «البرنامج»، حيث يتم فيه إنهاء كتابة الحلقة وتحضير الضيوف لليوم الثاني، ولذلك؛ يحدث في بعض الأحيان، أن يسقط سهوا بعض من النقاط من مقالتي الأسبوعية في الشروق. في آخر مقال، قررت أن أجرب النقل عن موقع سياسي أجنبي من وجهة نظر مختلفة لأزمة القرم، فقد وجدت فيه وجهة نظر مثيرة للجدل أحببت أن أعرضها. تنبهت في الصباح الباكر لخطأ في أول المقال، فقمت بتصحيحه، ولكن للأسف سقط مني سهوا آخر سطرين، المذكور فيهم اسم وكاتب المقال الأساسي وكاتب آخر اقتبست منه بدرجة أقل. لم اتنبه للخطأ إلا متأخرا بسبب ضغط العمل طوال اليوم، وتم التصحيح في النسخة الإلكترونية للجريدة، واعتذرت على حسابي الشخصي على «تويتر»، بعد التنويه عن المصدر. مرة أخرى، اعتذر بشدة للخطأ الناتج عن ضغط العمل، وشكرًا للقراء الأعزاء». اعتادت الصحفيات في الأفلام المصرية القديمة أن يتصلن بأمهاتهن، ويعتذرن عن التأخر، وأنهن سيذهبن بالمقال إلى المطبعة فورا. ويعلم أهل المهنة أن للمطبعة طريقا آخر، وأن أغلب الكتاب والصحفيين لا علاقة لهم بالمطبعة، إذ تأخذ المادة قبل النشر دورة أخرى لا علاقة للصحفي فيها بالمطبعة. وكذلك فإن المقال الذي ينشر يوم الثلاثاء لا يكتب «يوم الثلاثاء هو أصعب أيام الأسبوع بالنسية لفريق «البرنامج»، وإنما يكون لدى هيئة التحرير يوم الأحد أو صباح الاثنين، وهذا يعني أنه كتب السبت أو الأحد. وكان الاعتذار بدون لوع أو هروب من المسئولية كافيا ليظل صاحبه كبيرا بعد أن طالت اتهاماته، وهو محق، لكثيرين من الإعلاميين، ولكنه اعتذر بعمومية في الحلقة التالية، ثم ألقى التهمة بالعمومية نفسها على كثيرين لأن «الصحافة لمت» على حد قوله. فائض الشهرة لا يكفي ليجعل صاحبها كاتبا. «الكتابة» في مكان آخر، ولا يعيب الممثل الهزلي أنه ليس فيلسوفا. إسماعيل ياسين تتوارث الأجيال محبته، ولا نكف عن مشاهدة أفلامه كلما أعيد عرضها، في حين نسينا إسماعيل الآخر، إسماعيل ولي الدين، وتوارى ذكر طارق علام، وأخشى أن يكون هذا مصير باسم.