جرت في النهر مياه كثيرة قبل أن تصل وسيلة الكتابة لأن تكون قلمًا يكتب مباشرة في الأثير، لقد أصبح الكاتب يرى كتابه تقريبًا مطبوعًا وهو يخطه، ويختصر تلك المسافة التي كانت تفصل الحلم وتحقيقه أو المخطوط والكتاب. ولكنى ما زلت أستشعر رعبًا ما وأنا أكتب مباشرة على شاشة الكمبيوتر حيث أعرف أن كلَّ ما أخطه الآن سيُنشر على الفور ولن أستطيع استرجاعه مرة أخرى من السديم الإلكتروني، هذا الرعب يشبه كثيرًا رعب مَن يتكلم قبل أن يفكر.. وأظن أن هذا الرعب ناتج من معرفة أن الكتابة عبر أزرار الكمبيوتر توفر كلَّ شيء لراحة الكاتب فيما يُسمى بعملية التحرير.. من سهولة قص ولزق الجمل التي يريد تغييرها وحذف بعض الكلمات وإضافة أخرى مما يؤدى إلى سرعة إنجاز النص، وأظن أن أكثر ما يرعبني هو فكرة السرعة هذه، لأنني أعرف أن النص يحتاج إلى هواء نقي يتنفس فيه.. أعنى فترات الصمت التي يملؤها قدر من التأمل في حالة الكتابة التقليدية بالقلم، أعني لحظات البطء التي تصاحب تأمل الحروف وهي تتشكل كلماتٍ.. لحظات التأمل التي تتناسل منها الأفكار والمشاهد بمشاعرها المتباينة، ذلك البطء الذي تتزايد معه طرديًّا قوة الذاكرة. تطالعني كلَّ يوم عشرات المقالات وعشرات القصائد الجميلة والمهمة والمكتوبة على عجلٍ، بالتأكيد تحت إغراء سهولة النشر السريع، تلك الكتابة التي لن تصل أبدًا كما ينبغى إلى قارئها إلا باستعادة هذه اللحظات المفقودة.. هذا البطء الذي تجاوزته قصرًا. تجعلني هذه الحالة أستدعي على الفور رواية “البطء” للكاتب التشيكى “ميلان كونديرا”، و”ميلان كونديرا” هو الكاتب والفيلسوف الشهير في العالم العربي بروايته الأشهر “كائن لا تُحتمل خفته”، اختار باريس منفى اختياريًّا له عام 1975، وظل يكتب فيها أعماله الإبداعية حتى هذه اللحظة متأملاً ذاكرة لم تخنه فهو على ما يبدو يحرص على التعامل مع لحظات حياته ببطء لحمايتها. فاجأ “كونديرا” الوسط الأدبي بقراره عام 1995، بأن يتخذ اللغة الفرنسية كلغة أم ويكتب مباشرة بها فكتب رائعته “البطء” منجزًا عملاً أدبيًّا آسرًا ومعه دهشة النقاد من قدرته على التعبير باللغة الفرنسية كأنها لغته الأولى، وتعتبر روايته “البطء” قصيد مدح طويل في معنى البطء يوازى هجاء للسرعة بجميع تجلياتها. مكرِّسًا قاعدة تبدو شديدة البديهية لكننا قد نتجاوزها ولا ننتبه لها إذا كانت سرعتنا كبيرة كما هو حالنا الآن، وهذه القاعدة ببساطة هي.. أن درجة البطء تتناسب طرديًّا مع قوة الذاكرة، وبالتالي فالعكس صحيح تمامًا حيث تتناسب درجة السرعة طرديًّا مع قوة النسيان. والرواية تتكون من حكايتي حبٍّ متشابهتين، تقع أحداث الأولى في القرن الثامن عشر بكل ما يميز هذا الزمن من رحابة تدعو إلى التمهل والتأمل في كل تفاصيل الحياة، بينما تقع أحداث الثانية في الوقت الراهن بكل ما يميزه من وسائل اتصال سريعة ومواصلات سريعة وخطابات تصل قبل بسهولة ومواعيد تُتفقُ عليها وتُلغى قبل أن تُنجز. الحكايتان إذًا متباعدتان وفي زمنين مختلفين ولكنهما في المكان نفسه، حتى يضعنا “كونديرا” أمام هذا التناقض الصارخ، واصطياد التناقضات الصارخة هي سمة أصيلة في مُجمل أعمال “كونديرا”، فنكاد نصرخ بأن قصة الحب الأولى بالتأكيد هي الأكثر ثراء وهي الأحلى، بينما الثانية بإيقاعها السريع اللاهث الذي يُسرُّ لنا بأنها حكاية مزيفة لا تثير إلا السخرية. و”كونديرا” الفيلسوف أيضًا تحمل رواياته في معظمها كلمة واحدة كأنها عناوين لكُتب فلسفية ومنها: “المزحة”، “الخلود”، “الجهل”، “الهوية”، “البطء”، وهو لا يمل في روايته “البطء” من تكرار فكرته الفلسفية بأن البطء يحمى الذاكرة، وأن السعادة في الحبِّ هي محصلة اللحظات البطيئة المتمهلة التي كان المحب يستمتع بها وهي تمرُّ أمامه.. تلك اللحظات التي تخلص منها عصرنا الحديث، وحين ضحى بها عصرنا الحديث ضحى معها بقوة الذاكرة التي تقودنا بدورها إلى السعادة. يقول “كونديرا”: (أين اختفت متعة البطء؟ أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى؟ هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات الطبيعية؟ منذ أيام شاركت في تحقيق صحفي “تزايد مرض الزهايمر في الانتشار في الوقت الراهن”، فتذكرت بطء “كونديرا”، وتذكرت رعبي منذ خمس سنوات وأنا أسأل ابني عن حاصل ضرب 12× 4 فيلتقط على الفور هاتفًا محمولاً ويتأمل شاشته قبل أن يجيبني. الآن أتأمل كلمات “كونديرا” ببطء يليق به وبها، وأتأمل حروف هذا المقال على مهلٍ قبل أن أرسله للنشر بضغطة واحدة.