إعلامنا باستثناءات قليلة.. أصبح إعلام الصوت الواحد الذى يقلص فرص ظهور الآراء النقدية أو المعارضة، ويفرض خطابا واحدًا مهيمنا، يكتسب قوته من الإلحاح والتكرار وتضييق الخيارات المتاحة أمام الناس فى الحاضر والمستقبل، أى أنه خطاب بلا خيال أو طموح . ومثل أى خطاب فإنه يقدم سردية أو قصة متماسكة من ناحية الشكل وليس المضمون، وأهم مكونات هذا الخطاب هي:- مصر تتعرض لمؤامرة خارجية، تعتمد على الإخوان والطابور الخامس. وثورة 25 يناير جزء من هذه المؤامرة المتعددة الأطراف من خارج وداخل مصر. ولا بديل عن الحل الأمنى لمواجهة الإخوان والإرهاب .وأولوية الأمن ومواجهة المؤامرة على التحول الديمقراطى والحريات العامة. والسيسى سيكتسح الانتخابات الرئاسية نتيجة للتأييد الجماهيرى الواسع ودعم الجيش ومؤسسات الدولة، ما يمكنه سريعًا من دحر المؤامرة الخارجية وحل مشكلات مصر وتحقيق انطلاقة تنموية شاملة، وهنا يستحضر الخطاب المضمر عبد الناصر والسادات فى شخص السيسي. لكن تحليل مكونات الخطاب يكشف عن تناقضات هائلة تحاول الاختفاء خلف ثلاث آليات هي:- أولاً: الغموض : يروج الخطاب لواقع داخلى معقد وغامض ومحير منذ ثورة يناير وحتى اليوم، فوقائع وأحداث الثورة جرى كتابتها مرتين وبشكل غامض، فالمرة الأولى كانت ثورة شعبية عظيمة وفريدة من نوعها، صنع المصريون كعادتهم التاريخ وعلموا البشرية معنى وكيف تكون الثورة سلمية وشعبية ومن دون قائد أو أيديولوجية، ثم تدريجيًا وبشكل غامض واعتمادًا على الترويج للتفكير بالمؤامرة والطرف الثالث .. كتبت وقائع الثورة مرة ثانية بشكل متناقض مع الكتابة الأولى حيث تحولت إلى مجرد مؤامرة خارجية نفذها الإخوان وشباب 6 أبريل وجماعات الفيس بوك، طبعا كتابة تاريخ الثورة لم تستقر أو تتخذ صيغتها النهائية لأن التاريخ يكتبه المنتصر ويبدو أن النصر لم يتحقق بشكل حاسم لأحد أطراف الصراع السياسى والاجتماعى فى مصر حتى الآن، لكن من المهم تأمل غموض اللحظة الراهنة والتى بدأت مع 30 يونيو وخريطة الطريق، وهل تنجح أم تكرر أخطاء المرحلة الانتقالية الأولى التى قادها المجلس العسكري؟ لذلك ركز الخطاب الاعلامى على ضرورة النجاح فى خريطة الطريق بغض النظر عن غموض بعض ملامح مستقبل النظام السياسى بشأن مكانة ودور الإخوان وجماعات الإسلام السياسي، وعلاقة الجيش بالسياسة، وقدرة الرئيس القادم والبرلمان على تحقيق أهداف الثورة وإنقاذ الاقتصاد ومواجهة الإرهاب وتحقيق الاستقرار والأمن. ثانياً: آليات التفكير بالمؤامرة: يؤكد الخطاب الإعلامى والسياسى المهيمن على الغموض السابق ويتجاهل مخاطره، وأحيانًا يوظفه لدعم آليات التفكير بالمؤامرة وإثارة مخاوف الناس من الإخوان والإرهاب، لأن المؤامرة فى كل تجلياتها هى مسألة غامضة، ولا يمكن للأفراد اكتشافها وإنما هناك أجهزة، وقادة، ومفكرون، لديهم القدرة والخبرة والعلم كى يكتشفوا المؤامرة ويفضحوها للناس، لكن الإشكالية هنا أن الشعب الذى يؤمن بالمؤامرة قد يتساءل عن أسباب عدم قدرة هؤلاء القادة على مواجهتها وهزيمتها من خلال تحقيق إنجازات على أرض الوطن علاوة على القصاص من الأطراف الداخلية والخارجية المتآمرة، وتحقيق الانتصار عليهم . ثالثًا: أوهام ومشابهات تاريخية : يروج الخطاب لكثير من الأوهام التى تعتمد على مدركات خاطئة وافتراضات غير واقعية، فى مقدمتها سهولة معركة القضاء على الإرهاب، وقدرة الحل الأمنى على اجتثاث الإخوان والإرهاب، بما يعنى ذلك من تحميل الشرطة والجيش فوق طاقتهما، أيضًا يفترض الخطاب أن السيسى هو إعادة إنتاج لشخص وإنجازات عبد الناصر والسادات فى آن واحد رغم ما بينهما من تناقضات، ورغم اختلاف الظروف والسياق التاريخى بين الرجال الثلاثة، هكذا يقع الخطاب الإعلامى والسياسى فى أوهام المشابهة التاريخية غير المنطقية لهدف واحد هو منح الجماهير آمالاً غير واقعية فى إمكان حل مشاكلاتها سريعًا، وهى آمال لم يتطرق لها خطاب ترشح السيسى للرئاسة حيث حرص على تقديم رؤية واقعية تمامًا لمشكلات الوطن وضرورات العمل والتضحية من أجل إعادة البناء والتنمية. لكن الخطاب لا يركز على ما صرح به السيسى ويبنى عالمًا آخر من الأوهام والمشابهات التاريخية التى تذكر المصريين بعصر عبد الناصر وقرب استعادة الشعور الضائع بالكرامة والعزة الوطنية، وهنا تظهر معضلة الخطاب الاعلامى باعتباره خطابًا قصير النظر وانتهازيا، لأن الشعب سيكتشف بعد عدة أشهر من انتخاب الرئيس أن المشكلات قائمة، وأن التغيير للأفضل، أبطأ كثيرًا من وعود هذا الخطاب بشأن سرعة حل مشكلات الواقع، وبالتالى سيكشف الشعب زيف الخطاب الإعلامى المهيمن، ووقتها لن يجد هذا الخطاب من حل سوى العودة لآلية المؤامرة وتغذية الشعبوية الخائفة على أمنها، وعلى الوطن من مؤامرات هدم الدولة والاقتتال الداخلى وتقسيم مصر . خلاصة القول إن الخطاب الإعلامى المهيمن الذى يزيف الوعى سيدور فى حلقات حول نفسه ليعيد إنتاج فشله ويجتهد فى إخفاء تناقضاته، إما بالكذب أو بيع الأوهام والترويج للمخاوف والمؤامرات، علاوة على التأجيل ومحاولات كسب الوقت حتى يتمكن من تحقيق الهيمنة الناعمة التى تجعل أغلبية الشعب تذعن بشكل طوعى ومن دون إدراك أنها أصبحت أسيرة خطاب مزيف للواقع. لكن مثل كل خطابات تزييف الوعى قد يفشل الخطاب المهيمن وتتمرد الأغلبية عليه، وتدرك بفضل ما تعلمته خلال سنوات ما بعد 25 يناير أن الواقع مختلف عن خطاب الإعلام، وأن هناك بدائل أخرى غير ما يروج له هذا الخطاب، أو أن هناك استحقاقات ممكنة وأولويات مختلفة عن الغموض والتأجيل والتسويف التى يعتمد عليها خطاب تزييف الوعى . لمزيد من مقالات محمد شومان