ماذا يحدث لو استيقظ أحدنا يومًا واكتشف أن كنزه الذي أورثه أياه أسلافه ولم يهتم برعايته، قد استولى عليه أحدهم بوضع اليد؟! بالتأكيد سوف تقوم قيامته ولن يهدأ له بال أو يرتاح، ولن يدع وسيلة إلا ويسلكهاحتى يسترد إرثه العائلي المنهوب ممن وضع يده عليه. والطامة تصبح أكبر حين يكون التراث المنهوب هو «جامع قرطبة»، أول مسجد جامع عرفته أوروبا، وأروع مأثره تركها المسلمون في الأندلس وآخر ما تبقي من آثارهم وتراثهم، قد تم مؤخرًا شراؤه - ويا للنكتة السمجة - مقابل 30 يورو أو ما يعادل 300 جنيه مصرى, باستغلال قانون سطره رئيس الحكومة الأسبق خوسي ماريا أثنار، ينص على جواز امتلاك المعابد وبعض المؤسسات العمومية، وتسجيلها بثمن رمزي، وكانت الكنيسة قبلاً تشرف على الجامع دينيًا وسياحيًا. ما يثير الأسى التزام الصمت، ومقابل هذا الصمت المريب ثار بعض المثقفين وجمعيات المجتمع المدني الإسبانية، الذين حداهم الأمل في الإبقاء على المسجد تراثًا إنسانيًا كما أعلنته اليونسكو، وجرى جمع توقيعات نحو 100 ألف من مواطني قرطبة وإسبانيا تناشد منظمة اليونسكو والحكومة الإسبانية اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف تسجيل بيع هذه المأثرة الإسلامية، لأن إسقاط البيع لابد من إتمامه قبل المدة التي تنتقل فيها ملكية المسجدلمن اشتراه بشكل رسمي بحلول عام 2016م . وتدلنا قصة بناء المسجد على فروسية الحاكم الإسلامى, فحين نزلت خيل المسلمين أرض الأندلس مع القائد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد سنة 92ه/ 710م، واختاروا كنيستها الكبرى المعروفة باسم ( بشنت بنجنت )، الواقعة فوق بقعة صخرية بجنوب المدينة لإقامة مسجدهم الجامع لم يهدموها وإنما تقاسموها مع نصارى قرطبة، وأقاموا المسجد الذي اتسم بناؤه في البداية بالبساطة والتواضع إلى أن تطورت مسيرته المعمارية والجمالية أيام صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي هدم البناء القديم وجلب إليه الأعمدة الفخمة والرخام المنقوش بالذهب واللازورد، وبلغ ما أنفق عليه 100 ألف دينار ثم زاد خلفاؤه من بعده في هذا العمل، حتى أصبح أعظم مساجد الأندلس. وقد بدئ في إنشائه عام 169ه، وكملت عمارته سنة 170ه، وتتابعت توسعاته وعمارته التجميلية في عهد ثمانية من خلفاء بني أمية، آخرهم المستنصر بالله الذي زاد مساحته سنة 350ه زيادة كبيرة وأنشأ المحراب الثالث، وتحول الجامع في عهده إلى جامعة، أطلق عليه - من وقتها - اسم جامعة قرطبة. وفي عهد دولة العامرية حدثت زيادات جديدة أهمها في عصر المنصور بن أبي عامر فأصبح الجامع بهذا أضخم المساجد في تاريخ العرب المسلمين، وكانت ساحته على ما ذكر ابن الورديت تملؤها أشجار البرتقال والرمان ليأكل منها الجائعون . وينقل د. راغب السرجاني وصف محمد بن عبد المنعم الحميري (ت. 900 ه / 1495 م) أحد الكتاب والمؤرخين القدامى لمعمار االجامع المشهور ، من أَجَلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة.. يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف.. طوله مائة باع وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد (أقواس) مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا ، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل.. ، وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام. ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها.. فيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر ... وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان وعلى رأس المحراب كتلة رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللاَّزَوَرْدِ وسائر الألوان، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يقال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعه ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا! وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) ارتفاعها في الهواء مائة ذراع ..منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي. وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ (أقواس) دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب .وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم. إن جامع قرطبة ليس مجرد أثر معماري إسلامي ولكنه تاريخ أمة, إذ كان أكبر مركز إشعاع علمي عرفته أوروبا في زمنه، وجامعته كانت فى زمانها أشهر جامعات العالم، فعلى مدى قرون كان تُدّرس فيها كل العلوم، وإليها يفد طلاب العلم من جميع الأعراق والديانات ومن شرق العالم وغربه، ومن خلالها انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوروبية، فكانت أساس النهضة التي تعيشها أوروبا اليوم، وتخرج في هذه الجامعة العريقة علماء نوابغ وأساطين فكر وضعوا أسس مختلف مجالات المعرفة منهم : شيخ الفلاسفة ابن رشد، والجغرافي الإدريسي ومحمد الغافقيت(أحد مُؤَسِّسِي طبّ العيون)، والطبيب الزهراوي أشهر جَرَّاح وصيدلي عالم بالأدوية وتركيبها، فضلا عن ابن باجه، وابن طفيل، والقاضي القرطبي النحوي وابن عبد البر، وغيرهم كثير.. والعمل على استعادة الجامع واجب على كل مثقف حر، والأمة التي لا تتمسك بتراثها لا تستحق أن تحيا مرفوعة الرأس.