الزمن الأول حين علمتُ بسقوط الشقيقات ماريبال الثلاثة قلتُ لنفسي: لقد مات المجتمعُ المُنشَّأ، (حجر اللازورد والشاعر الصاخب تكذبون بشأن رمز يُشير لإمبراطورية تحتضر وبقدر ما عُرف مذاك لحين قلتُ لنفسي: الأمر أن المجتمع المُنشَأ قد مات) فهمتُ أن العديد من الوحدات البحرية فى العالم تبدأ غرقَها وسط فقاعة التفكير. وأن جيوشأً عظيمة شهيرة على وجه الأرض بدأت تنهار فى خضم الريبة الأسيفة.
الأمرُ أنَّ هناك أعمدة من المرمر صلدة تهزم الأزمان وأهرامات مُطلَقة ترسَّخت على الحضارات غير قادرة أن تحتمل موت الفراشات. حين علمت أن ثلاثا من مرايا المجتمع ثلاثا جديرات بتقدير وفخر الرجال، ثلاثا وكنّ حينها أمهات وفى مطلع اليوم سقطن اغتالوهنّ آه اغتالوهنّ! على الرغم من ابتسامتهن تلوح على الرغم من شهور أبريل تنعكس فى الجداول على الرغم من سُحبهنّ تستكين (واليوم بطوله تتطلع فيه عيون كثيرة كبيرة مفتوحة) تهشمت الجمجمة تهتكت الأحشاء وانشطرت الصلوات آه اغتالوهنّ! أدركت أن الاغتيال مثل وحش فى ذيله النيران لن تتوقف إزاء أية شفقة إزاء أية بوابة رحمة إزاء أية نافذة للشفقة إزاء أية عتبة أو بهو ولا إزاء الجدران ولا إزاء الشقوق ولا إزاء الذروة ذروة الآباء الأوائل لأن مذاك الحين فقد الرصاص مساره والمعنى مقامَه ولم يتبق شىء على قدمه سوى الإنسانية الباقية لتخلد فوق هذه النقطة المخزية لما هو لا نهائي للكون. عرفتُ حينها أن الاغتيال حل محل الفكر وأنه فى ضوء المنزل بدأ أَلفته الخنزير المقرون والضفدعة مكسوة بالشعر وأن البومة البيضاء استقرت بالمدرسة وأن النمس آوى إلى حدائق الأطفال وأن سمك القرش فى مياهه وبهيئته بخناجره وجذعه فى قشوره ومهده أم أن العصر المحتوم كان قد بدأ للشر والخير مُجرَّدَين وجها لوجه مهددين بنصر عنيد محتوم الموت بالموت. آه اغتالوهنّ! لم تكن المرة الوحيدة فلست قادرا أن أحكى تاريخ الرجال سقطوا فى "مايمون" و"إستيرو أوندو" على بعد طلقات بسيطة من "كونستانثا" فى العام نفسه... قلب 1959 علماً أن العالم بأسره يعرف أننا الصمت نفسه حتى فى المصائب. لم تكن المرةُ الوحيدة فلست قادرًا على أن أحكى التاريخ لهذا البلد العتيق الذى استنبتته أمريكا اللاتينية فالعالم كله يعرف أنها استنبتته من فقراتها فى مساء معدنى اسمه الصمت من فقرة اسمها العبودية من فقرة اسمها مورد الأرض من فقرة اسمها الفطنة ومن فقرة خلفية كبيرة خرج المَذهب "مونرو" لن أحكى هذه القصة لأنها كانت ذات مرة وليست الأولى حين سقط الرجال مثلما يسقط رجال الخصوبة ليمنحوا الدم الأنقى لعضلات الأرض.
السيف يمتلك السنبلة السنبلة تمتلك الانتظار الانتظار يمتلك الدماء الذى سيغزو الحقيقة الذى سيغزو حقول القصب الساحلية والجبلية ويبدو لنا الجمع من جانبه عند العَلم
السنبلة لديها سيف والسيف لديه جمجمة.
ولكن يوما ما عُر ف أن الشفق فى مرات ثلاثة مرات ثلاثة لتوازن الأمومة استمرار أراضينا ثلاثة فوق أسطح الأطفال المتاخمة الثلاث معروفات فى نوبات الحمى فى المهد وزجاجات الرضاعة تحتمى ثلاثتهن فى سيرهن فى أمومتهن المُبحرة القابلة للإبحار فى مرآة زواجهن فى يقين جيرتهن فى انسجام نموهن ومدرسة سلواهن لقد سقطن تم اغتيالهن فى صمتهن وكن الشقيقات الثلاثة ميرابال آه اغتالوهنّ! وحينئذ عُرف أنه لم يعد يتبقى شىء؟ وأن الفزع فى فوهة المدفع وأن البارود لديه الرعب وأن الانفجار يقطر رعبا والرصاص أزرق رمادي وأننا توغلنا فى حزن عهد فكان نهاية العصر المسيحي. آه نائمات! أواه رقيقات! أى خزيٌ هو تأملهنّ. سقط شهر نوفمبر على البشر مثل الأشجار دائمة تحت الليل وما تزال تمنح الظل. آه أيتها الخالدات! بندول الساعة يقرع صمت البلدية والساعة الصغيرة تنسل فى صمت قطرة قطرة خمس وعشرون رؤية من يوم يُدعى نوفمبر. ولكنها ليست النهاية آه أيتها النائمات! إلى الآن لم تحن النهاية لم تحن النهاية.