د.حماد عبدالله يكتب: الإهتمام الوطنى بالقيمة المضافة!!    عاجل- السيسي يستقبل الفريق أول عبد الفتاح البرهان لبحث تسوية الأزمة السودانية وتعزيز التعاون الثنائي    السعودية.. تعليق الدراسة حضوريا في الرياض بسبب سوء الطقس وتساقط الثلوج    الطقس اليوم الخميس 18-12-2025.. أجواء شتوية باردة وشبورة كثيفة صباحًا على أغلب الأنحاء    الصحة العالمية: مقتل أكثر من 1600 شخص في هجمات على المراكز الصحية في السودان خلال 2025    زكريا أبوحرام يكتب: جماعة البهتان    أحمد حمدي يكتب: اللعبة الجديدة.. التفكيك قبل التصفية    بوليتيكو: الاتحاد الأوروبي انقسم إلى معسكرين بسبب الخلاف حول مصادرة الأصول الروسية    تراجع أسعار الذهب اليوم 18 ديسمبر في بداية التعاملات بالبورصة العالمية    توقع تثبيت أسعار الفائدة في أخر اجتماعات البنك المركزي الأوروبي للعام الحالي    د. حمدي السطوحي: «المتحف» يؤكد احترام الدولة لتراثها الديني والثقافي    أحداث مسلسل FALLOUT ستؤثر في الجزء الخامس من اللعبة    نائب لافروف يزور الدوحة ويبحث مع مسؤولين قطريين تعزيز علاقات التعاون بين البلدين    الداخلية ترد على بيان حزب سياسي حول مزاعم مخالفات انتخابية    الاحتلال الإسرائيلي يعتقل شابين خلال اقتحامه بلدتي عنبتا وكفر اللبد شرق طولكرم    إدارة ترامب تسخر من بايدن بلوحة تذكارية على جدار البيت الأبيض    الشيوخ الأمريكى يقرّ ميزانية دفاعية بقيمة 901 مليار دولار    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى المنيا.....اعرف صلاتك    البرلمان تحت الاختبار.. بين ضغوط الأسعار وحصن الأمن القومي    تطورات جديدة في انهيار عقار المنيا.....مخالفات جسيمة وراء الانهيار    السيطرة على حريق في أحد المحال بمنطقة ألف مسكن بالقاهرة    شهادة المخالفات الإلكترونية أحدث الخدمات.. «المرور» يسير على طريق التحول الرقمي    لمواجهة تراجع شعبيته، ترامب يلقي خطابا الليلة يكشف أجندته ويستعرض "العصر الذهبي"    أنشطة متنوعة لأهالي عزبة سلطان ضمن برنامج المواطنة والانتماء بالمنيا    خالد أبو بكر يدعو الجماهير والأندية لدعم الزمالك.. جزء من تاريخ مصر    الإعادة تشعل المنافسة.. مجلس النواب 2025 على صفيح ساخن    نيفين مندور، أسرة الفنانة الراحلة تتسلم جثمانها اليوم    يلا شووت.. المغرب والأردن في نهائي كأس العرب 2025: صراع تكتيكي على اللقب بين "أسود الأطلس" و"النشامى"    بطولة العالم للإسكواش PSA بمشاركة 128 لاعبًا من نخبة نجوم العالم    جمال الزهيري: كأس أمم أفريقيا أهم من المونديال بالنسبة لمنتخب مصر    غياب الزعيم.. نجوم الفن في عزاء شقيقة عادل إمام| صور    سوليما تطرح «بلاش طيبة» بالتعاون مع فريق عمل أغنية «بابا» ل عمرو دياب    مسؤول روسي: هجوم أوكراني يلحق أضراراً بسفينة في ميناء روستوف جنوب البلاد    ماذا حدث في اللحظات الأخيرة قبل وفاة نيفين مندور؟    بالفيديو.. محمد رمضان يعتذر لعائلته وجمهوره وينفي شائعة سجنه ويستعد لحفله بنيويورك    محافظ قنا يعزي أسر ضحايا حادث انقلاب ميكروباص بترعة الجبلاو.. ويوجه بحزمة إجراءات عاجلة    سفير مصر في المغرب: الأوضاع مستقرة وتدابير أمنية مشددة لاستقبال المنتخب    نقابة المهن التمثيلية تتخذ الإجراءات القانونية ضد ملكة جمال مصر إيرينا يسرى    اسأل والجمارك تُجيب| ما نظام التسجيل المسبق للشحنات الجوية «ACI»؟    عالية المهدي تحذر الحكومة: 65% من الإنفاق العام في مصر يخصص لسداد الديون    التهاب مفصل الحوض: الأسباب الشائعة وأبرز أعراض الإصابة    مصرع عامل تحت تروس الماكينات بمصنع أغذية بالعاشر من رمضان    وزير الثقافة يعزز الشراكة مع متاحف قطر ويشارك في احتفالات اليوم الوطني.. صور    إصابة 11 شخصاً فى حادث تصادم سيارتين ب بدر    كأس الرابطة الإنجليزية - نيوكاسل يواصل حملة الدفاع عن لقبه بفوز قاتل على فولام    أمم إفريقيا - البطل يحصد 7 ملايين دولار.. الكشف عن الجوائز المالية بالبطولة    نوبات غضب وأحدهم يتجول بحفاضة.. هآرتس: اضطرابات نفسية حادة تطارد جنودا إسرائيليين شاركوا في حرب غزة    اقتحام الدول ليس حقًا.. أستاذ بالأزهر يطلق تحذيرًا للشباب من الهجرة غير الشرعية    وزارة الداخلية: ضبط 40 شخصاً لمحاولتهم دفع الناخبين للتصويت لعدد من المرشحين في 9 محافظات    ما حكم حلاقة القزع ولماذا ينهى عنها الشرع؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    الإسماعيلية تحت قبضة الأمن.. سقوط سيدة بحوزتها بطاقات ناخبين أمام لجنة أبو صوير    الحكومة تستهدف استراتيجية عمل متكامل لبناء الوعى    محافظ الجيزة: زيادة عدد ماكينات الغسيل الكلوى بمستشفى أبو النمرس إلى 62    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    باريس سان جيرمان وفلامنجو.. نهائي كأس الإنتركونتيننتال 2025 على صفيح ساخن    إقبال على التصويت بجولة الإعادة في انتخابات مجلس النواب بالسويس    متحدث وزارة الصحة يقدم نصائح إرشادية للوقاية من الإنفلونزا الموسمية داخل المدارس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة الملح والدفء

ثابتة على فطرتها، لا تبالي بتغيرات الزمن.. تمر السنون لتبقى بيننا كتابا جديدا لم يُقرأ.. أسرارها كامنة لا يعرفها إلّا من يمشى في دروب عشقها، والباحث الهائم في خفايا دهاليزها. جفّت على أبوابها الموصودة أزمنة وأباطرة.. لم تكن تدري أن الزمن يختزن لها في كل صباح عمر جديد.. عصفت بها رياح العثمانيين والمماليك.. وضربتها عواصف الفرنسيين والإنجليز.. دون أن تقتلها.. بل تقزّموا هُم.. وتفتتوا، وتلاشوا في رمالها.. بينما تُبعّث هي كل يوم من جديد.
«رشيد».. زهرة من ألف قرن تخرج من حضارة الماء.. إبنة النيل والريح.. فيها يلتقي النهر بالبحر.. والشرق بالغرب. مر بها الغرباء: هيرودوت، واسترابون، وفيلاوس، وهيلانة.. باتت قبلة العشاق منذ أن نسج «مينو» و«زبيدة» أشهر قصة حب لقائد عسكري فرنسي هزمه الحب أمام جمال المرأة المصرية. أطياف من عبر على أرضها تلوح بين مداراتها.. كل من حاول نسج تاريخ له، وسعى لتحقيق المجد والإنتصارات: الإسكندر، عمرو بن العاص، قايتباي، الغوري، صلاح الدين الأيوبي، ونابليون.
على مر الزمان، تبدّلت أسماؤها.. بدءا من «رخيت» في العصر الفرعوني.. إلى «رشيت» في العصر القبطي.. وأخيرا احتفظت باسم «رشيد». تستقبلك عند مداخلها أشجار النخيل التي تشق عنان السماء، لتكتسب إسما جديدا: «مدينة المليون نخلة». وبقامة النخيل الباسقات، ولد على أرضها الطيبة الشاعر علي الجارم.. الذي تنفس الحب فيها.. فألهمه أجمل الكلمات في وصفها:
أرشيدٌ وأنت جِنَّة خُلْدِ لو أتاح الإلهُ في الأرضِ خُلدا
حين سَمّوْكِ وردة زُهِي الحسنُ وودّ الخدودُ لو كنّ وَرْدا
توّجتْ رأسَكِ الرمالُ بتبر وجرَى النيلُ تحت رِجْليْك شهدا
وأحاطت بكِ الخمائلُ زُهْراً كلُّ قَدٍّ فيها يعانقُ قَدّا
والنخيلُ النخيلُ أرخت شعوراً مُرسَلاَتٍ ومدَّت الظلَّ مدّا
كالعذارَى يدنو بها الشوقُ قُرْبًا ثم تنأَى مخافة اللّومِ بُعْدَا

بيوت عاشقة

غير عابئة بالمطر، قررت أن أمضي فى رحلة التنقيب عن جوهر «رشيد».. أبحث عن ملح الأرض.. عن أهلها الطيبين. منذ قدومي إليها كانت الأمطار تتساقط، لكن أبخرة الدفء والحنين تتكاثف في الأزقة والأسواق، حول طاولات المقاهي المطلّة على الكورنيش.. وجوه ابتسامتها أجمل باقة زهور تحتفي بالغريب، وتذيب جليد الجفاء في النفس. ابتسامة رضا بالمقسوم وإيمان بالمكتوب. الناس هنا مخلصون لعملهم في جنتهم العذراء.. يعشقون الحياة ببساطتها.. وهو ما يدفع المواطن الرشيدي لإتقان الحرف الأساسية الموروثة عن الأجداد مثل صناعات المراكب والسفن، وصناعات مشتقات النخيل والأخشاب، وصناعة السجاد، وصيد الأسماك. من أجمل المشاهد التي استوقفتني كثيرا خلال جولتي على الكورنيش، كانت جموع الصيادين التي تبحر بمراكبها في قلب النيل سعيا وراء الرزق الحلال.. منهمكين بفرد الشباك، وسحبها من النهر، وإفراغ صيدهم.. مشهد ثري واقعي، أعاد للذاكرة لوحة «الصيادين في رشيد» التي رسمها الفنان محمود سعيد، وأبدع في إثرائها بالتفاصيل.
أسير.. وأتعثر.. أضيع في شوارع المدينة الضيقة -عمدّا- في محاولة لإكتشاف الزوايا الخفيّة بها.. تتقاطع السكك فجأة، لتبدو العمارة الحديثة جنبا إلى جنب مع القديمة. غير أن إطلالة المنازل القديمة لها روح وطابع خاص، تعكس مهارة أهلها في العمارة والنجارة والبناء.. تتميز بتعدد الطوابق التي تصل في بعض الأحيان من 5 إلى 7 طوابق، مبنية بالطوب الأحمر والطوب الرشيدي الأسود (الآنجور). البيوت الرشيدية متلاصقة بحميمية، تسلم شرفاتها ومشربياتها على بعضها البعض.. بيوت عاشقة تحت المطر.. حجارتها الود وجدرانها الألفة.. أركانها معبأة برائحة الجنة.
لا تندهش إذا عرفت أن المدينة تشتهر بالمنشآت العثمانية. فقد بلغت رشيد أوج حضارتها في القرن العاشر الهجري، بعد أن أصبحت أقرب الثغور المصرية من اسطنبول بعد الفتح العثماني لمصر. واحد من أهم هذه البنايات هو «منزل الأماصيلي» الذي شيّده عثمان آغا الطوبجي (الشهير بالأماصيلي) عام 1808م.، وكان يعمل ضابطا بالجيش التركي. المنزل غني بالأعمال الخشبية متقنة الصنع.. تتجلى في المشربيات، والأسقف، والمكتبات، ودولاب الأغاني المطعّم بالعاج والصدف.. كل شىء ينطق بالأصالة.
اسكب في مخيّلتي الألوان على الشوارع التي أضحت باهتة كالأشباح.. أبحث عبثا عن ظل ناس عاشوا هنا في زمن سافر فيه الحب دون أن يترك له عنوانا. أمر على منازل كوهية، ومحارم، وعلوان.. وإذا بي أتوقف فجأة أمام «منزل الميزوني»، وهو جد محمد الميزوني والد زبيدة البواب، زوجة فرانسوا جاك مينو القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر، والذي أشهر اسلامه بعد ذلك وسمّى نفسه «عبدالله مينو».. وقد خلّد هذه القصة علي الجارم في روايته «غادة رشيد».
ها هي الشمس تبزغ لتضىء بلاطات خزفية ذات رسومات غنيّة بالألوان تعلو أبواب مداخل البيت.. تتخلل أشعتها البرتقالية المشربيات لتضفي على المكان جو حالم يريح الأعصاب.. جدران البيت تروى حكايات الهوى.. مازال عبير «زبيدة» هائما، يفوح من الأرائك والأسرّة المبنية من الحوائط.. والتي كانت فى السابق تفرش بالحاشيات المنجدة، وتغطّى بأجمل أنواع المنسوجات المزركشة والأكلمة الجميلة الصنع. وكما أُعدّت هذه المنازل لكي تكون سكنا وتحفة فنية، أعدت كذلك لكي تكون حصونا حربية عند الحاجة في زمن الحروب. لكنها لم تتمكن من صدّ غزوات الحب.. وهو ما دفع أهل رشيد إلى أن يسارعوا في تزويج بناتهم من أبناء رشيد عند سماع خبر زواج مينو وزبيدة.. خوفا عليهن من فشل التجربة.

مآذن الإستقلال

مزهوة بثوب الحرية.. تقاوم كل الأسوار والقيود.. لتحتفظ بمكانها التاريخي على خريطة الشرق. المدينة التي نجحت في عهد الملك منبتاح ابن الملك رمسيس الثاني في صد هجمات الليبيين وشعوب البحر.. ليس غريبا عليها أن تكتب حجارتها قصص النضال. واحدة من هذه القصص تتجسد في «قلعة قايتباي» التي تقف شامخة على الشاطىء الغربي للنيل منذ أن أنشأها السلطان الأشرف قايتباي سنة 1479 ميلادية لتدافع عن هذه الثغر والمدخل المهم لمصر. وقد عرفها المؤرخون الأجانب باسم «قلعة جوليان»، وهي تختلف تماما من حيث التصميم والعمارة عن قلعة قايتباي بالإسكندرية.
ملكة متوّجة بكنوز الآثار الإسلامية.. المساجد على أرض رشيد ميناء سلام وراحة للنفس. مآذن قامت هنا أو هناك منذ أن دخلت المدينة في الإسلام على يد عمرو بن العاص (بعد فتح الإسكندرية عام 20 ه).. علما بأن حاكم رشيد القبطي «قزماس» قد عقد صلحًا مع ابن العاص، وأدّى الجزية، وظلت الكنائس على حالها لمن بقى على دينه من أهلها. تحلق طيور النورس حول مآذنها.. حيثما تشاء تطير فرحا بأصوات الذكر والإبتهالات. ولمساجد المدينة شخصية مستقلة عن باقي مساجد مصر حيث تتميز بتعدد المداخل، واحتواء هذه المساجد على أروقة وأكتاف تحمل أسقفًا خشبية أو قبابًا، إلى جانب استخدام القيشاني في زخرفة الجدران والمآذن، بالإضافة إلى اعتناء الفنان بالأضرحة والمقاصير. تتجسد هذه القيم الفنية في مسجد أبو مندور، والمحلي، والعباسي.. ومسجد صالح آغا دومقسيس، وهو من المساجد المعلقة المرتفعة عن منسوب الطريق حيث يصعد إليه ببضع درجات، ويشغل الدور الأرضى حواصل ودكاكين يعلوها المسجد مباشرة.
إلّا أن «مسجد زغلول» يحمل ذكرى عزيزة على قلوب الرشايدة وكل المصريين.. هي ذكرى المقاومة الباسلة والانتصار على حملة فريزر.. بعد أن انطلقت من مئذنته صيحة (الله أكبر) ايذانا ببدء الهجوم على عساكر الحملة الانجليزية. كما كان هذا المسجد بمثابة «الأزهر» حيث كان يتوافد عليه طلاب العلم وكان لكل شيخ عمود به، لكنه تعرض مؤخرا لحالة من التدهور بسبب ارتفاع المياه تحت السطحية.. ولا أعلم إن كان المسئولون بالدولة يدركون هذه الكارثة أم لا!!.. الخوف إذا استمر تجاهل وزارة التنمية المحلية ورؤساء الأحياء لمسلسل الإهمال.. أن تندثر هوية المدينة الإسلامية كما سبق وتوارى وجهها الفرعوني.. فبالرغم من أن قلعة قايتباي بها، هي التي عثر داخلها على حجر رشيد (المفتاح السحري الذي فتح رحاب التاريخ المصري القديم للإنسانية، بعد أن تمكن الفرنسي جاك فرانسوا شامبليون من فك رموز الهيروغليفية ومعرفة معانيها وأسرارها).. إلّا أن ملامح رشيد الفرعونية تبددت، ولم يبق منها سوى تل أبو مندور الذي يستغيث هو الآخر.. فهل من مغيث؟!

قمر رشيد

تزحف أمواج المساء على المدينة التي مازلت أحلق في مدار حبها.. أتأمل من خلف النافذة الزجاجية النخيل على جنبات الطريق وهو يتمايل يمينا ويسارا، محترفا الرقص مع الريح. للحظات أحسست بأنني على موعد مع الماضي البعيد حين توقفت السيارة أمام بوابة حديدية ضخمة. هنا، على بعد 20 كم من رشيد، تحديدا في قرية أدفينا، يربض في بهاء وعزّ قصر عظيم على ضفاف النيل.
أخطو بحذر في حديقة شاسعة رائعة.. تحاصرني من كل جهة أشجار ونباتات نادرة أرسلها ملوك من جميع أنحاء العالم كهدايا إلى الملك فاروق.. أستحضر أطياف وأصوات من سكنوا بهذا القصر وكأنني في حفل ملكي أسطوري.. تتعالى فيه أصوات ضحكات الضيوف.. تتداخل موسيقى البيانو والأوركسترا مع أصوات رنين كئوس النبيذ الأحمر. في الحفل «الإفتراضي» ألتقيت بالخديوي إسماعيل، الذي اختار هذا الركن الهادىء من رشيد، ليبني عليه استراحته الخاصة. أرفع رأسي لكي أتأمل برج القصر المشييد بالطوب الأحمر- والذي يتمكن الصاعد بداخله أن يرى الحدائق والمرسى الملكي ونهر النيل وقناطر أدفينا من جميع الجهات- فإذا بالملك فؤاد الأول يطل من شرفته!.. وهو من استكمل مشروع جده إسماعيل، ببناء قصر ملكي على الطراز الإيطالي، وحشد به كميات هائلة من الكتل الخرسانية الفرعونية، وزينّه بأرضيات من الباركية الإيطالي المنقوش عليه العمليات الحسابية والتي عن طريقها يتعرف على مواعيد النوّات، والفيضانات، وقياس مناسيب المياه في النيل، وموعد هطول الأمطار.
كان الليل دافئا، فجلست على المرسى النيلي.. القمر في الأعلى بينما تتراقص صورته الحلوة في النيل، تداعبه أمواج ونباتات النهر. أسئلة كثيرة تدور برأسي من هذه النافذة البحرية: كم من مرة شهد هذا المرسى - الرائع التصميم- اليخت الملكي «المحروسة» وهو يرسو على ضفافه؟.. كم من مرة استمتع بهمسات العشاق وأسرار الحالمين؟
فجأة فرّت الطيور إلى سمائها.. وتبددت مظاهر الإحتفال والفخامة عند مرور مركب للصيادين يكسر ضجيج محركاته سكون الليل. فإذا بي وحيدة، أُنصت لإحتضار النجوم وبكاء النيل أمام مرسى بديع فنّيا إنهارت أجزاء منه، ليبدو بائسا حزينا. ألتفت من حولي، لإجد القصر العظيم.. هذه التحفة المعمارية النادرة.. بدلا من الحفاظ عليها وجعلها مزارا سياحيا عالميا.. طالتها يد الإهمال حين وقعت في قبضة كلية الطب البيطري التابعة لجامعة الإسكندرية!!.. كم أرّقني أن تترك جثة الذاكرة لصقور الزمن تنهشها!!.. وتنهش معها تاريخنا وهويتنا!!.. ما من مسئول يغار على ذاكرة مصر ويحمي كنوزها من الإندثار؟!.. صونوا للوطن تاريخه، فإن معركة الهوية لا تقل أهمية عن المعارك ضد الإرهاب. حذار من الذاكرة مرة، وحذار من النسيان ألف مرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.