إذا كان رفع الحدّ الأدنى للأجور والمعاشات مستعصياً إلى هذا الحدّ ويسبب كل هذه المشكلات، فلماذا يتأخر تنفيذ الشق الثانى من المطلب بتخفيض الحدّ الأقصى؟ وإذا سعى البعض للفصل بين الموضوعين، وكأنه لا يجوز أن يجتمعا فى مطلب واحد، وكأن وجودهما معاً ليس هو أساس المشكلة، وتحججوا بعدم جدوى السعى للتخفيض لأن حصيلة ما سوف يتوفر من هذا الإجراء لن تفى بتمويل المطلوب لرفع الحدّ الأدنى، فالردّ: أن هناك ما هو أهمّ ويجب أن يتحقق بنزع فتيل التناقض المستفزّ بين الحدّين، والذى له آثار سلبية هائلة على استقرار البلاد، حيث لا مبرر أن تقبل به الأغلبية الساحقة من المواطنين، حتى من أولئك المستورين فى الفئات الوسطى، خاصة أن حجج دعاة إقرار الأجور المليونية من المال العام، أو المدافعين عن استمرارها، وكلهم من وراء ستار وكأن الموضوع يُطبَّق بالقصور الذاتي، كلها حجج فاسدة، ولم يكن لها أن تحظى بأى سند إلا فى ظل اختلالات نظام مبارك ونظام الإخوان وأمثالهما، وكان كل منهما يولى بالرعاية خدمة الكبار، بالإنعام عليهم من المال العام بهذه الأجور الفلكية بإدعاء كاذب أن لهم خبرات عميقة ونادرة، وأنهم يحققون فوائد كبيرة للبلاد وهم على رأس مناصبهم هذه، وكان غريباً أن بعض هؤلاء لم يحققوا نجاحات فى العمل المنوط بهم رسمياً، بل كان الفشل حليفهم، وكان الأكثر غرابة أن بعضاً منهم نزل بالباراشوت على رأس مؤسسات كبرى تنحصر مواردها العظيمة فى الجباية الرسمية لأموال هى بالتعريف أموال عامة! أى أنه لا كفاءة هنالك ولا يحزنون! بل إن هؤلاء المستفيدين المرفهين المدلَّلين لا لشيء إلا لحماية النظام، اثبتوا أنهم أعجز أيضاً من القيام بمهمة الحماية المزعومة عندما قرر الشعب أن ينفذ إرادته وأطاح بالنظامين واحداً بعد الآخر! لذلك فإن استمرار هؤلاء فى هذه الوضعية يوحى بأنهم أقوى من نظم الحكم التى ابتكرت وجودهم وجعلتهم من غرائب الطبيعة! لقد انفضحت هذه الفئة، لمن لم يكن يدرك من قبل مدى تهافتها، وصار الكل يعلم أن هؤلاء يستمدون قوتهم من مناصبهم وليس من ذواتهم، بما يعنى مباشرة أن آخرين يمكنهم أن يقوموا بمهامهم الوظيفية المسئولين عنها، بل وبكفاءة حقيقية فى التخصص، بل وسوف يسعدون إنهم تلقوا مقابل هذا العمل أجوراً طبيعية لمثل هذه الوظائف. وكان للمستشار هشام جنينة تصريح شهير، فور توليه رئاسة الجهاز المركزى للمحاسبات، كشف فيه، فى أول اعتراف من مسئول بهذا المستوى، عن أن هناك من يتحصلون على دخول مليونية شهرية من المال العام! وعندما سُئِلَ عن عددهم قال إنه لم يحصر الموقف بعد، وإنه بصدد الانتهاء من هذه المهمة قريباً! وحتى الآن لم يُعلَن على الرأى العام على وجه الدقة أسماء أصحاب الدخول المليونية ووظائفهم التى سوف تكشف هُزال العمل الرسمى للمسئولين عنه! والجدير بالنظر أننا صرنا نستخدم اللغة أحياناً فى طمس المعنى، فى حين أن الإنسان اخترع اللغة فى الأصل لتكون أداة تعبير عما هو كامن فى عقله ووجدانه، ومن ذلك التعبيرات الدارجة منذ سنوات على الألسن والأقلام عن الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، حيث ساد التجريد وأصبح من يتناولون الموضوع وكأنهم يعالجون أفكاراً محلقة فى السماء مما يهيم فيه الهائمون، ونسى كثيرون أنه عند كل حدٍّ من الاثنين هناك بشر، بكل ما يعتمل فى نفوس البشر، ولكن شاء الحظ العاثر لبعضهم أن يعانى من البؤس والفقر المهين لصاحبه والمسيء للمجتمع، فى حين كان نصيب آخرين أن يتقلبوا فى نعيم غير مُبَرَّر معادٍ لقوانين الطبيعة! ولك أن تتخيل مشاعر كل من الفريقين! هنا تتضح خطورة أن يقتصر الكلام على مطالبة المغبونين بالصبر وبتأجيل مطالبهم، وتبيان أن علاج مشكلاتهم لن يحدث قبل أن يتفانوا فى العمل ويحققوا مزيداً من الموارد، والكل يعلم أن هذا وحده لن يحل الفوارق الهائلة، بل سوف تكون هذه الفوارق مرشحة مع زيادة الانتاج إلى أن تتسع أكثر فى زيادة إضافية لأجور أصحاب الأجور الزائدة أصلاً! المشكلة من تركة العصر الغابر، ولا يستفيد منها سوى فئة المحسوبين على أوضاع ثار الناس عليها، ولم يعد يدعم امتيازاتهم إلا من يخطط لاستخدامهم لذات الغرض، أو من يغفل عن الأثر الكارثى لاستمرارهم هكذا، وللأسف الشديد فقد عانت الثورة، ولا تزال، من أنها لم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى صناعة القرار حتى تكون هنالك إمكانية حقيقية لإنجاز مهامها. على رئيس الجمهورية القادم، الذى سيقع على كاهله آلاف المشكلات المؤجلة منذ عقود، أن يولى أولوية متقدمة للمسائل التى تمسّ مباشرة نفوس الجماهير العريضة، وليس هناك ما يسبق مثل هذه القضية، فهى تندرج مباشرة تحت شعار أصيل من شعارات الثورة عن العدالة الاجتماعية، وهذا مهم، كما أنها تتعلق أيضاً بالشعار الآخر عن الكرامة الإنسانية التى هى ممتهنة بحدة من جرّاء العناد فى الإبقاء على مثل هذه الأوضاع المختلة التى تستفز مشاعر الناس بالاستهانة بهم واحتقارهم وعدم الاكتراث بهم ولا بمطالبهم. وأما الإحساس بالعدل فأثره عظيم فى نفوس الناس، ينبغى على القيادة الحكيمة أن تعمل على تحقيقه، وأن تخطط للاستفادة منه فى الدفع بالأمور إلى الأمام، مع اعتماد قواعد المصارحة والصدق والشفافية فى حوار وطنى مفتوح، لأن الناس فاض بها الكيل من النصب بمشروع النهضة الإخوانى الذى نفروا منه، ومن مشروع الفكر الجديد الذى كان التمادى فيه سبباً أساسياً فى خروجهم فى الثورة بصدور مفتوحة. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب