بالقرار الأخير للمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين بسحب سفرائهم من قطر، فى 5 مارس الحالى، تصل معضلة قطر مع الخليج إلى محطّة الحسم الأخيرة. فعلى مدى الخمسة عشر عاما الماضية من عمر قناة الجزيرة ونظام حكم الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لم يصل تردى العلاقات الخليجية مع قطر المستوى الذى بلغه اليوم. وخلال هذه الفترة أيضا، لم تجد دول المجلس فى كل ما قامت به «الإمارة المشاغبة» ما يدعو إلى تبنى قرار جماعى مماثل لهذا القرار. وكان يمكن لدول الخليج أن تتعايش أكثر مع قطر، لولا ما أقدمت عليه الأخيرة من سلوكيات فاقت مستوى التصور فى تهديد قناعات وأعراف مستقرة بالخليج. لقد اتسم «القرار الثلاثي» بالمفاجأة وأحدث وقع الزلزال الخليجي، ولكن الدول الثلاث لم تتخذ قرارها إلا بعد جهود مضنية للوساطة، وبعد صبر ودراسة متأنية. وتتبدى صعوبة القرار من اتخاذه من دول تطرح منذ أشهر - ولا تزال- مشروعا للاتحاد الخليجى لا يستثنى قطر. وتعكس طريقة صدور القرار بالتزامن والبيان الصادر فى هذا الشأن مدى الاستياء من الدوحة ومستوى الخطر الذى بلغته العلاقات بين قطر ودول الخليج. مرحلة جديدة وفى دول مجلس التعاون الخليجي، نعرف المخرجات النهائية لصنع القرار، بينما لا يُعرف الكثير عن دهاليزه ودواليب صنعه أو الخطوات المتدرجة نحو اتخاذه. وبشكل عام تتسم القرارات الخليجية بالصبر الطويل فى مراحل ما قبل القرار، والتى تجرى فيها المساومات والقبول بحلول وسط، ولكن ما أن يُتخذ ويجرى الإعلان عنه فإنه لا يصبح محكوما بعلاقات الود والمجاملة والوساطة، ويصير ل «الإعلان الإعلامي» عن القرار تكلفة لأنظمة الحكم أمام الرأى العام والمواطن الخليجي، وهو ما يصعب التراجع عنه من دون تنازلات تُرضى أطرافه من الأسر والحكام. أما وقد صدر القرار بهذا الشكل المفاجئ والحاسم فإنه لا يعنى غير شيء واحد، وهو أن الدول الثلاث قد قررت أنه لا مجال للتعايش مع السياسة القطرية بحالتها الراهنة، بحيث يمكن الحديث عن مرحلة جديدة فى العلاقات داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي. لقد ظلت السعودية والإمارات طوال السنوات الثلاث الماضية تشكو من قطر دون جدوى، وظلت دول المجلس ممتعضة من سياسات الإمارة إزاء مصر، ولكنها لم تُقدم على خطوات تصعيدية. ومنذ شهرين فقط وقفت دول المجلس ممثّلة فى الأمين العام لمجلس التعاون الخليجى د.عبداللطيف الزياني مستنكرة التهديدات التى أطلقها رئيس نادى قضاة مصر، المستشار أحمد الزند، والتى اعتبرها المجلس تطاولا مرفوضا على قطر، مما يعكس حساسية دول المجلس نحو احترام الأصول والأعراف فى الخليج. مباراة صفرية ولكن بعد أن تحولت الإمارة القطرية، التى كانت متألقة ومتقدمة على أوضاع وسياسات الخليج، إلى دولة تغرد «خارج السرب»، وتحولت من قوة بناء ونموذج للتحديث والخطاب الإعلامى الجديد، إلى دولة مزعجة ومثيرة للقلق والمشاكل، ولا تكتفى بإثارة البلبلة والاضطراب فى جوارها، وإنما تمارس دورا تخريبيا دون أدنى اعتبار لأحوال الدول، انتهى فصل الخلاف بين الخليج وقطر إلى الصراع بين دول تتمسك بعلاقات الاحترام وحسن الجوار التقليدية ودولة تصر على الاستمرار فى خط زعزعة الاستقرار والخروج على الأعراف والأصول. وضعت سياسات قطر علاقات دول الخليج عند مفترق طرق، ودفعتها من خلاف قابل للسيطرة والاحتواء، إلى «مباراة صفرية» يحفزها الصراع ليس ففط حول السياسات بالنظام الإقليمى وإنما حول كرامة حكام أعلنوا موقفهم أمام شعوبهم. هكذا قذفت السياسة القطرية علاقات الخليج بعيدا إلى أطر تدفعها مشاعر الكرامة وتغذيها مكانة حكام وشيوخ وأمراء، تصعّب تراجعهم عن المواقف أو انكسارهم أمام قطر بعد كل ما بذلوه من وساطة وما قدموه من تنازلات. خطان للصراع وعلى الصعيد الإقليمي، ساعدت السياسات الصدامية لقطر على إجلاء خطين للصراع فى المنطقة العربية، خط الدولة وخط اللادولة، ولقد عزّزت هذه الحالة تأكيد الانتصار الخليجى لخط الدولة وعروبة النظام الخليجى أكثر من الانتصار للخط الأمريكى فى علاقات الخليج بالعالم العربي. ويبقى السؤال عن مدى الاستعداد الخليجى للمضى قدما فى السياسة العقابية لقطر، وهل يمكن أن تعود علاقات دول المجلس إلى سابق عهدها مع الدوحة؟ لأنه برغم الانقلاب الخليجي، لا يزال خط الرجعة متاحا أمام «الإمارة المشاغبة». ثلاثة مسارات هنا يمكن تحديد ثلاثة مسارات لتعامل قطر مع أزمتها الخليجية الراهنة: أولا القفز للأمام: تشير سياسات قطر وبيانها المقابل لبيان الدول الثلاث، وتصريحات وزير خارجيتها، وخط قناة الجزيرة، إلى تصميمها على المضى فى طريقها المنفرد. ويعنى هذا الخط الاندفاع بغريزة الإحساس بإذلال الكرامة - أكثر من العقل - نحو وَهم تكريس مكانتها كدولة تمارس دورا عالميا، وتتحالف مع تركيا وإيران والتنظيم الدولى للإخوان، واستمرار التظلل بالمظلة الأمريكية. ويعنى هذا المسار أن طريق قطر مع الخليج طويل وشاق، وقد يكون ما يجرى الآن أحد فصوله الأولى. ويدفع إلى هذا التوجه صعوبة اعتراف من أدخلوا قطر فى هذا الفصل المظلم من علاقاتها مع شقيقاتها بالخليج بأخطائهم، لمعرفتهم بالتكاليف الواجب دفعها. ثانيا الوقوف فى المكان: وهذه السياسة إن انتهجتها قطر، فسوف تكون سياسة مؤقتة، وتعنى التمترس عند ذات الموقف لفترة، لحفظ ماء الوجه داخليا أمام الشعب القطرى وخليجيا أمام شعوب الخليج، وهذه السياسة هى الأكثر تحسسا للتوازنات الداخلية فى قطر، ومن المرجّح ألا تكون أكثر من محطة مؤقتة تستهدف منع مزيد من هدر الأصول فى علاقات قطر بالخليج مع إفساح المجال للوساطة الهادئة، دون الظهور بمظهر الانكسار أمام المجتمع القطري، خصوصا وأن هناك انتقادات داخلية لهذا الخط السياسى الذى انتهى بالصدام وتدمير علاقات قطر الخليجية. ثالثا التراجع عن الخط: وهو ما قد يعنى قيام الأمير الشاب بعملية جراحية سريعة داخل نظام الحكم وسلسلة من التغييرات الداخلية التى تساعده على بناء توجه جديد لإمارته يعيد طرحها كقوة استقرار خليجية وعربية، ويتخلص بها من جماعات المصالح الداخلية والشلليّة النافذة فى السياسة والدين والإعلام والتى اعتاشت طويلا على سياسات الشغب الإقليمية، فى خطوة تعيد الثقة به خليجيا كزعيم إصلاحى ومتصالح، وبما يساعده على استرداد أسهمه بين قيادات الخليج، وهذا يعنى عودة قطر مجددا إلى السرب الخليجي، أو على الأقل التخلى عن سياسات ما قبل «الأخونة». ومن المؤكد أن قطر لن تعود بعد الأزمة الحالية كما كانت على مدى العقد الماضى مطلقا. ولذلك فليس تجاوزا أو مبالغة القول بأن القرارات الخليجية عكست وصول الخليج إلى مَحطّة الحسم الأخيرة مع قطر.