التفاصيل الصغيرة.. الحكايات الحميمة.. والملاحظات العديدة التي يعرض لها الكاتب هنا هي البطل الحقيقي لكتاب( رحيق العمر) للمفكر الكبير جلال أمين.. والكتاب, الذي يعد بمثابة الجزء الثاني من سيرته الذاتية, التي صدرت في جزئها الأول تحت عنوان( ماذا علمتني الحياة؟) يكمل كاتبه هنا هذه السيرة ربما من منظور آخر مختلف.. فهو يعرض لها بعيون أخري جديدة.. هذه الأوراق ليست فقط قصة حياته وحكايات الأسرة والعائلة وتجاربه التي عركها عبر سنوات العمر, وانما هي أيضا( حكاية) تطوره الفكري و(مشواره) الثقافي الذي خاضه,( لقاءاته) و(علاقاته) مع المفكرين والكتاب الذي التقاهم في حياته.. من منظور أرحب وأشمل إذن يعرض جلال أمين لمشوار حياته.. يقول الكاتب: حاولت في هذا الكتاب الجديد أن أشرح بوضوح أكبر ما اكتسبته من قراءاتي وتجاربي من أفكار أثرت في تكويني, ثم ضعف أثرها, أو بقيت معي حتي الآن, أملا في أن تكون في هذا فائدة للقاريء, علي الأقل بإطلاعه علي أفكار بعض الكتاب المهمين الذين لم تكن له معرفة سابقة أو كافية بهم.. والخوض في السيرة الذاتية يعد في الحقيقة تجربة محفوفة بالمخاطر.. فالسيرة الذاتية لا تلقي في العادة ترحيبا كبيرا من النقاد وربما أيضا من القراء.. فلابد أن تحوي سطورها أحداثا شيقة وأسرارا وتجارب مثيرة خاضها صاحبها في حياته.. ولابد كذلك أن تتمتع بقدر كبير من الصراحة والجرأة.. وأن يملك كاتبها قلما رشيقا قادرا علي الولوج في بحورها دون أن يشعر قارئه بالملل والسأم.. لم يتردد كاتبنا طويلا أمام هذا التحدي.. وسطر سيرته الذاتية للمرة الثانية.. فهو يشعر بأن حياته الثرية والأحداث العديدة التي صادفها تستحق التسجيل, وتستحق أيضا إعادة التأمل والرصد.. وهو كذلك يريد أن يشرك قارئه معه في ذلك المشوار الحافل الذي خاضه.. (رحيق العمر).. حينما ينضج المرء ويتأمل مليا مشاهد حياته, بعد أن اكتسب قدرا كبيرا من الخبرة والحكمة والتروي والنفس الطويل والأهم من ذلك كله القدرة علي قراءة الأحداث بموضوعية ونظرة رحبة, شاملة تتيح التسامح مع الهفوات والأخطاء التي يقع فيها الإنسان في حياته, وتمكنه من تفهم رؤي الآخرين, دون أن يقع في شرك( العصبية) و(النظرة الأحادية) التي لا تبصر سوي جانب واحد ضيق من الأمور.. مصر تتبدي هنا بين سطور الكتاب.. يراها القاريء, ويشاهد تطوراتها وتحولاتها, وتبدل أحوالها الاقتصادية والاجتماعية وهو يطلع في الوقت نفسه علي خصوصيات الكاتب وتفاصيل حياته. فالخط العام يسير جنبا إلي جنب مع الخاص, مما أكسب الأوراق عمقا وبعدا وثراء وحيوية, فأنت تكاد تعيش اللحظات وتشاهد الأحداث وهي تتحرك أمام عينيك وتموج بالحياة وتضج بالصخب. مع جلال أمين نعيش في لندن في أواخر الخمسينيات ومنتصف الستينيات, حيث كان يدرس الدكتوراه والتي تعد علي حد كلماته أكثر سنوات عمره خصوبة, نتعرف علي صديقته البولندية الجميلة, ثم لقائه بزوجته ورفيقة عمره الانجليزية جان, ونقرأ معه خطاباته لأخيه حسين ونطلع كذلك علي رسائل حسين إليه.. نسافر الي كوبا وموسكو ولبنان ونذهب معه إلي مسارح لندن ونستمتع بأنغام الموسيقي الفنلندية, ونصادق زملاء بعثته. تحكي الأوراق كذلك علاقته بالماركسية والماركسيين, وتعرض لتلك المراجعة الفكرية التي خاضها أمين مع نفسه, وكان ثمارها تشككه في مبدأ( المادية الجدلية, وتطل الأم في صفحات الكتاب, تلك الأم المصرية البسيطة التي آمنت بأن إنجاب الأولاد بمثابة وثيقة تأمين ضد الطلاق, فانجبت ثمانية أبناء, وعكفت علي إطعامهم أحسن الطعام, وهي مثل كل الامهات المصريات تخاف علي أولادها وتؤمن بالحسد وتظل طوال حياتها( تعشش) علي بيتها. العديد من الحكايات نستمتع بقراءتها ونحن في صحبة( رحيق العمر), فكاتبنا( حكاء) بطبعه يملك موهبة هائلة في رصد التفاصيل الصغيرة العذبة التي تكسب النص( خصوصية) و(دفئا), وتجعل سطوره قريبة من القلب. يقع الكتاب في461 صفحة من القطع الكبير صادر عن دار الشروق.