يتأهب المصريون لإختيار أول رئيس منتخب بعد الثورة الشعبية الكاسحة التى زلزلت الأرض تحت أقدام عصابة الجماعة الإرهابية المتأسلمة فى الثلاثين من يونيو 2013، وأزاحتها وأسقطت نظامها، الإستبدادى الإقصائى الاستحواذى الفاشى، فى الثالث من يوليو من العام نفسه. ويلح علينا الواجب الوطنى أن نبعث رسالة إلى القادم الجديد لقصر الاتحادية، الذى يجلس على قمة السلطة التنفيذية؛ الأمين على العقد الاجتماعى، الملتزم بسلطان القانون؛ الحارس على سيادة الدولة وسلامة أراضيها؛ الحَكم بين السلطات، ورمز الدولة المصرية. تنطلق هذه الرسالة من التأكيد على أن رئاسة الدولة المصرية شرف وتكليف يعلو أى مكانه وفوق كل إعتبار. وتتضمن الرسالة تحديداً لرؤية وأولويات تستوجب إهتمام رئيس مطالب بوضع نهاية عاجلة لحالة مصرية غير مسبوقة – إقتلاع جذور الإرهاب وتحقيق الأمن؛ القضاء على الإنحراف وتصفية الفساد، تصحيح الأوضاع المتردية والفاشلة فى إدارة شؤون الدولة وتقوية مؤسساتها، الإنخراط بسرعة فى مسار التعافى، يعظم أهداف المصريين التى جسدتها ثورتان خلال أقل من ثلاثة سنوات، يحترم الدستور والقانون، يستشرف المستقبل ويلتزم بإستحقاقاته، ويعى طبيعة المخاطر ويخطط لمواجهتها، بعيداً عن المغامرة غير المحسوبة، على قاعدة أن مصر اليوم أمام خيار أن تكون أو لا تكون.. رؤية سيادية وأهداف استراتيجية: يتعين وضع رؤية وأهداف استراتيجية للدولة المصرية خلال السنوات العشرين القادمة، تساندها سياسات وتشريعات، وتعززها، تنفيذياً، خطط وبرامج ومبادرات، تراعى فيها الأولويات، أن “مصر دولة مدنية ديمقراطية معاصرة فاعلة فى عالم متغير، العلم وسيلتها، والدستور والقانون قاعدتها، والعدل الاجتماعى غايتها، والمشاركة الحرة والتعددية وتداول السلطة فيها أدوات الحكم الرشيد”. الأمن: تقوية منظومة الأمن على نحو يمكنها من القضاء على بؤر الإرهاب فى ربوع الأراضى المصرية خلال مدة محددة، ومواجهة جميع صوره ومختلف أشكاله بلا هوادة واجتثاثه من جذوره. ويتعين أن يكون الانطلاق هنا من قاعدة ذهبية مفادها أنه بقدر تعلق الأمر بالسلم الاجتماعى والأمان الاقتصادى والأمن القومى، تتراجع كل الصيحات والدعاوى وتصبح مجرد ترف لا نتحمله. التعليم والبحث العلمى: المشروع القومى الأهم، إذ يتعين النظر إلى التعليم بأنه هو الحل، وأن البحث العلمى هو الطريق، وأن كل منهما “صناعة”، وليس “خدمة”، الأمر الذى يستوجب ربطهما بمتطلبات أسواق العمل المستهدفة، المحلية والخارجية، وباحتياجات خطط التنمية الشاملة والمستدامة، فى القطاعات كافة، وبمقومات السلم الاجتماعى، المعادى للبطالة، والأمن القومى، الذى تنال منه التبعية. كفاية الخدمات الصحية ورفع كفاءتها: ليس بخاف حالة التردى التى وصلت إليها الخدمات والرعاية الصحية فى مستشفيات الدولة والوحدات الصحية المنتشرة فى محافظات الجمهورية، ومعظم مدنها وبعض قراها. والمطلوب إجراء مراجعة شاملة وتقييم أحوال وأوضاع المستشفيات والوحدات الصحية، الحكومية منها والخاصة. العدالة الإجتماعية: تلك هى الاستهداف الركيز “للعقد الاجتماعى” الذى يجسده الدستور. وتجد العدالة الاجتماعية نفسها فى التأكيد على مبدأ المواطنة وتفعيله، وفى التنفيذ الأمين والحاسم للحقوق واحترام الحريات التى أوردها الدستور، وتضمها وتفسرها القوانين، وتساندها أحكام القضاء ومبادىء العدالة، وتوفير مستوى إنسانى جيد من الخدمات الأساسية، وتأمين الحد المقبول من العيش الكريم للمواطنين بغير تمييز. الأمن المائى: يتعين أن تحظى قضية المياه، فى ضوء مشروع ما يسمى “سد النهضة”، الذى تسير دولة إثيوبيا فى إقامته على النيل، تحرضها فى ذلك وتساندها تحالفات معادية لمصر وشعبها، والذى يمثل “سداً للفقر المائى والتصحر” بالنسبة لمصر، وعدواناً صارخاً على حقوقها التاريخية فى مياه النهر، أولوية مطلقة للقيادة السياسية. ولم يعد يكفى التمسك بحصة مصر المقررة فى اتفاقية 1959، بل يتعين مضاعفتها فى ضوء الزيادة السكانية. الأمية: تصل الأمية الهجائية فى مصر إلى ما يتجاوز ال 40% من السكان. وعار أن يصنف تقرير “صندوق الأممالمتحدة للسكان” لسنة 2012، مصر بين أكبر عشر دول فى العالم يعانى مواطنوها الأمية الهجائية. مشروع تنمية شبه جزيرة سيناء: لقد باتت التنمية الشاملة لشبه جزيرة سيناء من الأولويات المتقدمة للأمن القومى المصرى، بعد أن تبين بوضوح أن إهمالها تركها مطمعاً للأعداء، القديم التقليدى منهم والجديد، وتحولت شبه الجزيرة إلى ملاذ لمجمع الإرهاب الدولى. إن تنمية شبه الجزيرة وتعميرها يمثل حوائط صد وقوة ردع تعزز الأمن القومى المصرى، فضلاً عن قيمتها الزراعية والصناعية. مشروع تنمية محور قناة السويس: إن تنمية محور قناة السويس، على جانبى المجرى المائى، يمكن أن ينشيء قلعة محورية للصناعات المتقدمة وصناعة الخدمات المتطورة، ومركزاً حيوياً للاستثمارات والتجارة عابرة القارات، الأمر الذى يضيف للأهمية الاستراتيجية لهذا الممر المائى العالمى، ويشكل دعائم جديدة للاقتصاد الوطنى وتنويع وتنمية موارده، بل إن ذلك أيضاً يوفر دعماً للمزيد من تأمين القناة وتنشيط حركة المرور فيها وزيادة مقومات الردع الجماعى والأمن القومى. مضاعفة الرقعة الزراعية: يلزم العمل على مضاعفة الرقعة الزراعية خلال عشر سنوات، عن طريق عمليات استصلاح موسعة فى الساحل الشمالى والصحراء الغربية ومنطقة توشكى وشبه جزيرة سيناء، بصفة خاصة. ويستتبع ذلك، بالضرورة، وضع مخطط “لدولة زراعية”، يحقق الأمن الغذائى ويوفر فائضاً للتصدير، يواكب، ويتناغم ويتكامل مع الزيادة السكانية المتوقعة. السياسة الخارجية: لقد تراجعت السياسة الخارجية المصرية درجات على نحو تدريجى خلال أكثر من أربعة عقود. تلك السياسة فى حاجة إلى مراجعة شاملة تنطلق من رؤية جامعة ومتكاملة تفرز مجموعة من الثوابت الإستراتيجية التى تعيد لمصر دورها الرائد والمؤثر، مع إيلاء أولوية متقدمة لبناء تحالف إستراتيجى، حقيقى وفاعل، مع دول الخليج العربية، وبصفة خاصة تلك التى تمتلك رصيداً مشرفاً لمواقف جسورة مع مصر وأهلها، تجلت عند الكبوات وفى مواجهة الشدائد. وفى مقدمة هذه الدول تأتى المملكة العربية السعودية؛ دولة الإمارات العربية المتحدة؛ دولة الكويت، ومملكة البحرين. مراجعة القوانين: وجوب مراجعة ترسانة هائلة من القوانين، يرجع بعضها إلى الحقبة العثمانية وعهد الباب العالى، كما قد تتناقض وتتداخل وتتزاوج مع بعضها الآخر، أو مع أحكام دستور 2014. وبعد تلك رسالة تحمل رؤى ومبادئ ومنطلقات محددة، وأولويات عمل، تمثل فى مجموعها تكليفات بمسؤوليات لا يقدر على حملها وتحملها وإنفاذها إلا الزعماء.. وهكذا تنعقد على رئيس مصر القادم الآمال الكبار لشعب عظيم ووطن كبير وأمة تتطلع إليه.. أستاذ القانون الدولى لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى