أردت بعد استكتابى ل «الأهرام» ثانية، أن أقدم مجموعة من المقالات عن الاقتصاد الثقافى ومفهوماته، مع إلقاء الضوء على تجارب الدول التى نجحت فى استثمار الثقافة للحصول على تقدم اقتصادى لافت, لكن الوضع السياسي, وتلاحق الأحداث, واستقالة حكومة د. الببلاوي, أو إقالتها, أرجأ هذا الموضوع المهم إلى حين, وذلك لأهمية تناول ملف الرئاسة المقبلة بين أسئلة المرحلة, وتحديات الزعامة! ربما تمنت عديد النخب السياسية الليبرالية والقومية واليسارية, على اختلاف توجهاتها, أن يقوم الترشيح على برنامج وطنى يجمع بين الثورة والدولة, وليس على شخصية المرشح فحسب, ذلك لأن الرئيس ليس ساحرًا يأتى وفى قدرته تغيير الواقع بمفرده, فهذا التصور, وإشاعته فى الوعى العام على النحو الذى يقوم به عديد الأجهزة, والقنوات المرئية, والصحف, هو سلوك شديد الخطورة لأنه يرسخ فى الوعى العام فكرة المخلّص الميتافيزيقية, بدلاً من أن يدفع المواطنين إلى القيام بواجباتهم والتزاماتهم, فالساحر فى الحقيقة هو الشعب الذى إن التف حول مشروع رئيسه, وعقد معه حلفًا للتقدم والنمو, غيَّر واقعه, دون أوهام, أو وعود كاذبة, من التى يطلقها المرشحون عادة, ولا ينفذون منها شيئًا. هذا عين ما دفعنى إلى الكتابة من قبل عن الشق الثقافى فى دستور مصر الجديد, وعن غياب الرؤية والرائى فى مؤسسات الوزارات القائمة, وعن فساد الإدارات والقيادات, وعن سوء اختيار القيادات والوزراء الجدد, وهى اختيارات كارثية! وعن ضرورات إعادة الهيكلة الشاملة لسبع وزارات ترتبط مباشرة بالثقافة, ذلك لأن أى مشروع اقتصادى أو صناعى أو علمى مستهدف من أى حكومة وطنية قادمة, لن ينجح دون أن تسبقه استراتيجية شاملة لمشروع قومى للثقافة, يعيد لحمة هذا الوطن إلى تماسكها التاريخي, ويقوم بترسيخ قيم هذا الشعب، فضلاً عن تمثّل الإيجابى منها, وابتعاثها من جديد, عبر استراتيجية كلية, تلتزم الدولة فيها بتعبئة مواردها البشرية المتاحة, التفافًا حول برنامج وقائد. ويظل البعد الثقافى هو الركن الغائب فى برامج جميع مرشحى الرئاسة السابقين دون استثناء واحد, فضلا عن برامج الأحزاب المصرية التى تنظر إلى الثقافة بصفتها مجالاً محصورًا فى الإبداع الأدبى فحسب! وهناك غفلة دائمة عن الأهمية القصوى لملف الثقافة القومية, فلم تنتبه مؤسسة الرئاسة فى أربعة عقود متعاقبة إلى أهمية وجود مشروع قومى للثقافة فى مصر, مشروع قادر على أن يدفع كتلة شعبية عريضة وفاعلة, إلى الالتفاف حول برنامج نهضوى واضح, ذلك بعد أن وجه سوء التشخيص لمشكلات مصر الأنظار إلى أن مشكلة مصر هى مشكلة اقتصادية فى الاساس, وقد مسّ سوءُ التشخيص هذا وعيّ النخب السياسية أيضًا, ونعلم جميعًا أن المشكلة الاقتصادية نفسها سببها الفساد المتراكم فى بنية مطردة, أفرزت ثقافة فساد لا يمكن علاجها دون مشروع ثقافى جديد, يبنى الفرد قبل بناء المؤسسة! الآن، تقف أمام أى رئيس قادم, مجموعة من التحديات, يمكن حصرها فى ستة تحديات مترابطة لا فصام بينها وهي، «تحديات نظرية» على مستوى التوصيف وتحديد الأولويات, و«تحديات عملية» على مستوى التنفيذ, و«تحديات كلية» على مستوى مشروع مصر الحديثة برمته, و«تحديات جزئية» على مستوى التجربة والأداء, و«تحديات آنية» تحتاج إلى حلول لا تقبل الانتظار, و«تحديات متوقعة» على مستوى المستقبل! لكننى سأشير هنا إلى تحدٍّ أُغفلَ طويلاً فى عديد الكتابات الاستراتيجية فى مصر, وهو فى رأيى التحدى الكبير الأول لأى زعامة قادمة, وهو التحدى النظرى الذى يبدأ بما يسمى «التوصيف الاستراتيجي», هذا المفهوم الذى لا تتضح مهماته, وبرامجه, وأهدافه, وسياساته, إلا إذا سبقته قراءتان دقيقتان ومتوازيتان للبيئتين الداخلية والخارجية, وهما قراءتان لا يمكن إنجازهما إلا من خلال مسافة, أى عبر مفكرين لم يُسْتَهلكوا فى أروقة المؤسسات القديمة, مفكرين يقدمون قراءة نقدية ثاقبة للأوضاع فى مصر, ولتحولات المجتمع الدولى الحديث. هكذا يصعب أن يحدد أى قائد قادم رؤيته لمصر جديدة, تتشوف التنوير والتقدم والنمو خلال الأعوام الثمانية القادمة, دون هاتين القراءتين النقديتين للواقع, وهو تحدّ يرتبط بقدرة هذه القيادة وبسرعتها فى تحديد الأولويات الصحيحة للمرحلة, والبدء الفورى فى تشكيل فريق عمل ممتد, ومركّب, متعدد الخبرات, فريق غير مستهلك, لا يختبئ وراء خبرات قديمة اُختُبِرَ أداؤها فى عهود سابقة, كيلا تكون عبئًا على أى مشروع جديد للتنمية. فنحن فى أمس الحاجة إلى قيادات غير مثقلة بخبرات تسجنها فى أفكار نمطية استهلكتها الإدارات القديمة, والإرادات الفاسدة, نحن فى حاجة إلى قيادات جديدة وقادرة على استنهاض قدرات هذا الشعب الكامنة وعزمه المعطل! وهذا ما لا يتحقق دون مشروع ورمز, مشروع يقوم على تآلف الإرادات بالمعنى القانونى للمصطلح, ولا أقول تطابقها, تآلف يجمع الخيوط العديدة المشكّلة لهوية مصر المعاصرة, ولنسيجها المتعدد, هذا هو العقد المنتظر الذى يجب أن يذعن له كلّ من الشعب وحكومته وقائده.. يحتاج رئيس مصر القادم إلى فريق قادر على وضع تصورات ناجحة لتنفيذ السياسات, وإصلاح البنى القائمة, وإعادة هيكلتها على نحو تكاملي, وإلى قيادات تكون محلاً لثقة الناس, كى تستطيع استنفار عزيمتهم, وإعادة ثقتهم بالمستقبل, وحفزهم إلى الحرب ضد الجهل والأمية والإرهاب, لحاقًا بالزمن, فالثورة فى حقيقتها هى محاولة شعب للحاق بالتاريخ, الهدف الذى لا يمكن إنجازه دون الحرق السريع للمراحل, وهذا رهين فهم المسئولين لسرعة التكيف البنيوى للمؤسسات القائمة, ولإعادة الهيكلة وفق بنية نظرية كلية, تخدم استراتيجية مرنة متعددة السياسات والأهداف. فالإصلاح المؤسسى العميق أصبح ضرورة من ضرورات أى خطة تستهدف نمو مصر الحديثة, وهو إصلاح يبدأ على المستوى النظرى والتخطيطى أولاً. ولا يمكن أن تقدم قيادات ثبت فشلها وفسادها الإدارى من قبل أى استراتيجيات جديدة, ذلك لأنها ستمتص من أى رؤية جديدة للإصلاح ما يعزز مواقعها, ويدعم طرائقها الإدارية القديمة فكرًا وسلوكًا, بل إنها ستكون عبئا على أداء أى نظام بالمعنى العلمى للكلمة- ثوريًّا كان أو إصلاحيًّا, فالمؤسسة بجهازها الإدارى ونظامه المتوارث أقوى من الفرد وتوجهاته, بل إننى لا أعدو الحق لو قلت إنه سيتم امتصاص أى أفكار جديدة من قبل الجهاز الإدارى القديم فى الدولة, لتدعيم مواقعه وسلوكياته المتوارثة.. إن أى نجاح ممكن سيكون رهين قدرة هذه القيادة على بناء الإجماع الشعبى حول مرحلة التحول الجديدة لمصر, وعلى دفع اللاعبين جميعًا إلى تقاسم الأعباء, ومقاومة نزعات الإحباط, والوهن, الناتجة من مرحلة المخاض السابقة. فما أحوج مصر الآن إلى قيادة قادرة على المستوى النظرى أن تحول نقاط الضعف إلى نقاط قوة! وإلى فريق رئاسى قادر على تقديم رؤية نظرية شاملة لمصر الحديثة بادئًا بأولوياتها, ومستثمرًا لقواها الوضعية الكامنة فى شعبها, وفى ثقافتها, أما القائد فلا يكون قائدًا بمفرده, ولكن بشعبه, تقول أنديرا غاندى «فى وقت من الأوقات كانت الزعامة تعنى القوة, أما الآن فإن الزعامة تعنى التجاوب مع الناس», وللكتابة بقية.. لمزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى