تعانى عملية التسوية السياسية للصراع العربى الإسرائيلي، خاصة فى جانبها المتعلق بالقضية الفلسطينية، تعثرا وفشلا يلاحقانها كالقدر، منذ أوسلو فى عام 1993، وهذه التسوية تنتقل من فشل لآخر، وما إن تتقدم خطوة حتى تعود إلى الوراء خطوتين، تشبه عملية التسوية إحدى الديانات الوثنية القديمة التى يتذكرها بعض مريديها بين الفينة والفينة، فيقومون بتأدية شعائرها وطقوسها بطريقة روتينية ومكررة، وفى الكثير من الأحيان مملة؛ وكأنهم لا يؤمنون بها فعلاً ولا يعتقدون فى جدواها، أو أنهم فقدوا الثقة فى مبادئها والأسس التى ترتكز إليها. وفى كل مرة تقام شعائر وطقوس هذه التسوية ينقسم المراقبون، ليس فحسب العرب بل والأجانب أيضاً، ما بين متفائل ومتشائم بمصير تلك الجولة أو الجولات المتتالية من هذه التسوية؛ وغالباً ما يكون الصواب فى جانب المتشائمين باختصار لأنهم يعرفون معوقات هذه التسوية وأين مكمن الخلل فيها؟ ولماذا تدور تلك العملية فى حلقة مفرغة وشريرة؟ تعود بها فى كل مرة إلى نقطة الصفر أو المربع رقم واحد؛ رغم تراكم وبلورة معالم الحل للمشكلات القائمة، تلك المعوقات وهذا الخلل يتلخصان فى عبارة مختصرة ألا وهى اختلال موازين القوى لصالح الطرف الأقوى أى إسرائيل؛ ليس فحسب على الصعيد الفلسطينى الإسرائيلي، بل أيضاً على الصعيد العربى الإسرائيلي. يعتقد جون كيرى أن الوصول إلى «أى اتفاق حتى ولو كان ناقصاً خير من ألا يتم التوصل إلى اتفاق على الإطلاق»، بيد أن هذه الصياغة قد لا تفى بالهدف الحقيقى من التسوية ألا وهو تحقيق وتنفيذ السقف الدولى المقبول عربياً وفلسطينياً للتسوية؛ وهو حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية فى حدود عام 1967 بجانب دولة إسرائيل وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين والقدس، والحدود، وهى القضايا الأساسية التيى يتوجب حلها فى أى تسوية، من ناحية أخرى فإن أى اتفاق أفضل من لا اتفاق يتجاهل طبيعة القضية الفلسطينية والحدود الدنيا المقبولة فلسطينياً وعربياً للحل حتى يستطيع مثل هذا الاتفاق الصمود والحياة والقابلية للتنفيذ. استوحى وزير الخارجية الأمريكى خطته من المفهوم الإسرائيلى للسلام خاصة السلام الاقتصادى «بمعناه المزدوج العمالى الذى طرحه بيريز فى مشروعه للشرق الأوسط الجديد، والليكودى الذى طرحه نتانياهو والذى يتركز على تحسين شروط حياة الفلسطينيين الاقتصادية والإبقاء على الاحتلال، وتجاهل المضمون التحررى للنضال الفلسطينى من الاحتلال الإسرائيلي، وقيام الدولة الفلسطينية. والحال أن جون كيرى استبدل المسار التفاوضى السياسى بإجراءات اقتصادية، هدفها تحسين الوضع الاقتصادى فى الأراضى المحتلة واعتبار ذلك حافزاً يشجع السلطة الفلسطينية على الجلوس إلى مائدة التفاوض، وتجاهل شروط المرجعية المعتمدة للمفاوضات ووقف الاستيطان. وضع كيرى خطته فى إطار ما سمى «بناء الثقة» لتهيئة أجواء التفاوض بين الطرفين، من خلال إزالة بعض الحواجز العسكرية وتسهيل حركة التنقل وتوسيع نطاق سيطرة السلطة خاصة فى المنطقة (ج) وفق اتفاق أوسلو عام 1993، وكذلك تطوير البنية التحتية وتخفيف قيود البناء والإفراج عن أسرى ما قبل أوسلو. تتضمن هذه الخطة ضخ 4 مليارات من الدولارات كاستثمارات فى الأراضى المحتلة، وهذه الاستثمارات ستدفع نحو زيادة الناتج المحلى الإجمالى الفلسطينى بنحو 50% فى ثلاث سنوات، وتخفيض نسبة البطالة إلى الثلثين وتزيد من قيمة الرواتب بنحو 40%، بالإضافة إلى ذلك السماح للسلطة باستغلال الفوسفات من البحر الميت وتطوير حقول الغاز أمام شواطئ غزة. ورغم انخفاض سقف خطة جون كيرى والتفافها على أسس ومرجعية وجوهر القضية الفلسطينية، فإن ما تضمنته هذه الخطة يتناقض مع الوقائع التى خلقها الاحتلال الإسرائيلى على الأرض؛ حيث أحكم الاحتلال السيطرة على المنطقة (ج) فى الضفة الغربية، وقام بنهب الموارد الطبيعية الفلسطينية، والهيمنة على مفاتيح الاقتصاد والمعابر والحدود والتجارة والتنقل عبر الجدار العنصرى والطرق الالتفافية والاستيطان وحصار غزة وعزل القدس. إن خطة كيرى المستوحاة من مفهوم السلام الاقتصادى الإسرائيلى الذى يستهدف الإبقاء على الاحتلال واختزال القضية الفلسطينية فى إجراءات اقتصادية لتحسين شروط الحياة، فى ظل بقاء الاحتلال، تستهدف الضغط على القيادة الفلسطينية وهى الطرف الأضعف فى توازنات التسوية، وتتجنب الضغط على الطرف الأقوى فيها أى إسرائيل، خاصة بعد فشل أوباما وكيرى أمام تعنت حكومة اليمين الإسرائيلية، وثبت للمرة المائة أو ما يزيد على ذلك عدم قدرة وربما عدم رغبة- الولاياتالمتحدةالأمريكية فى ممارسة الضغط على إسرائيل، ورؤية حقيقة المطالب الفلسطينية باعتبارها مطالب تحرير وطنى وهوية وتحرر من الاحتلال، الذى يكاد أن يكون الاحتلال الأخير القائم فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. يتوقف مصير خطة كيرى على محصلة عناصر النجاح والفشل المحيطة بها، والكيفية التى سيتم العمل بها لتعظيم آثار هذه العناصر وتغليب بعضها على بعضها الآخر، ويرتبط هذا الأمر بدور الطرف الأمريكى واستعداد الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى للدخول فى صلب القضايا المطروحة خاصة أن المفاوضات السابقة والتى انتهت إلى الفشل قد خلفت عنصراً إيجابياً وحيداً؛ أولا وهو توفير الحلول الممكنة لجميع القضايا المطروحة سواء تعلق الأمر بتبادل الأراضى أو قوات الإنذار المبكر والأمن ومصير المستوطنات والحدود والقدس. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد