صبيحة الاثنين الماضى رحل عن عالمنا الشاعر اللبنانى الكبير جوزيف حرب. رحل شاعر من طراز فريد، كان يعيش الشعر، ويقتاته، ويتخذه مأوًى وملاذًا، ويضنّ به على من لم يوهبوا الحسّ الشاعري، وعلى من جعلوا الحياة مناسبات ومواقف وغنائم ومعارك. لا ينفتح عالمه الإنسانى الرحب إلا لخلصائه من أصدقاء الروح، ويعتصم بالسكون الناطق فى ذروة داره المطلَّة على مرتفعات صيدا، وعيناه تلتهمان البحر والسهل والجبل. وأتيح لجوزيف حرب، أن تنسكب شاعريته الفذة فى لُغتيْه: الفصحى والمحكية اللبنانية. وأن يسرع الرحبانية وفيروز إلى شعره المتوهج وكلماته المحلقة، لتصبح غناءَ وشدوًا وعزاءً للملايين كلما أطربهم صوت فيروز. كما أتيح لقلمه المبدع أن ينسج من خيوط الحرير عديدًا من ألوان الدراما الإذاعية والتليفزيونية، وروائع المسرح، واللوحات والصور الغنائية، والكتابات الأدبية النادرة، يزاحم فيها نثره شعره، ويستقى كلاهما من نهره الماسيّ، وخضرته الدائمة. ولم يكن جوزيف حرب كسائر الشعراء، الذين يسطون على كون الله ومخلوقاته وآيات إبداعه من الطير والنبات والحيوان، يخلعون عليها أخيلة وينحتون منها لوحات وصورًا ومشاهد، ليثبتوا أن التعبير بالصورة هو رسالة الشعر الأولى ودليل نبوغه وعبقريته، لكنه بدلاً من أن يتكلم عن هذه الكائنات تكلم بها، وبدلاً من أن يصوِّرها صوَّر بها، وبدلاً من أن يصنع لوحات شعرية تحاكي، فإنه أتى بإبداع حروفه الشجر والنهر والبحر، ومفرداته الغيم والشيح والورد والحوْر، وسياقاته الريح والطير والبرارى والطواحين، وفضاءاته الغمام والمطر والأنواء والأعاصير والبروق والرعود. لقد أمسك بحروف هذه اللغة كائنات الله فى كونه، وأدخلها دواوينه، وثبَّتها بحبر ذوّب فيه روحه ونفْسه وصلواته وابتهالاته، فإذا بجسد الكون يصبح نجومًا على ورق الليل، وكل ما فيه كائنات ومخلوقات تستحيل إلى رفّات أغصان وهديل حمام، وتفاعيل شعر منضبط الوزن والإيقاع، تتوهج به قصائد ذات فم أخضر ولغة حمراء. وفى دواوينه بالفصحى: شجرة الأكاسيا، ومملكة الخبز والورد، والخصر والمزمار، والسيدة البيضاء فى شهوتها الكحلية، وشيخ الغيم وعكازه الريح، والمحبرة، ورخام الماء، وكلُّكِ عندى إلا أنتِ، وفى دواوينه بالمحكية اللبنانية: مقص الحبر، وسنونو تحت شمسية بنفسج، وطالع ع بالى فِلّ، وزرتك قصب فلّيت ناى (وفِلّ وفلّيت بالمحكية اللبنانية معناها أهرب) فى كل هذه المساحة الثرية واليانعة من الإبداع كان جوزيف حرب يمنح الشعر اللبنانى المعاصر أوْج سفارته إلى وطن النجوم: لبنان، وإلى الوطن العربى كله، وإلى فضاءات العالم الذى يتعشَّق الشعر الحقيقى وينتظره ويهتزّ له ويطرب وينفعل ويرقص ويغنى ويثور. وهل الشعر إلا هذا كلُّه؟ وفى كل هذه الدواوين التى تنهمر فيضًا رائعًا من ينابيع ليست متاحة لغيره، وتنسكب لونًا ونغمًا وعطرًا، فى تنويعات لها من الغنى والوفرة والزّخم والقدرة على الإدهاش ما يغرينا دومًا بانتظار المزيد، والمزيد يفجّر بدوره ظمأً إلى المزيد. وبين العطش الدائم والسُّكْر البديع، تتراوح الأعناق المنتشية، ويبقى هذا الشعر المغاير والمختلف، يخترقنا حاملاً - كما يقول هو- أغنيات وحنطة وسلامًا: صباحًا وهى نازلة إلى الوادي/انحنت لمرورها الأشجار/حيَّتْها الصخور الزُّرقُ/ لوّح بالغمام لها نسيمُ الأرضِ/ عصفوران من عشاقها رفعا معًا أذيالها الصفراء عن شوك الطريق/ العشبُ أمضى الليل منتظرًا قدوم قوافل السجاد من شيراز/ ديْر الحور نادى كلَّ رهبان الجداول كى يدقّوا فيه أجراس المياه لها/ المراعى عارياتٍ جئن يحملن الخراف لكى تبارك باليدين نهودهنّ/ الزرع أهدى قلبها الذهبيَّ سيف القمح/ باسْم النحل قدّمت الحقول إلى بياض جبينها تاج البنفسج/ إنها الشمسُ البهية أمّ هذا البحر، سيدة الثواني/ وجهها يبدو لموتى الآن خبزًا، وردةً، خمرًا، وستَّ شموع/ وألمح راحتيْها، وهى نازلة إلى الوادى لكثرة ما تعلّق من تراب البؤس فى جوفيهما، حقلاً به نبتت غصون من دمٍ، ودموع/ وطافت حول قبرى - وهو منبوش- كأوسمةٍ قديمة باركت يدُها الملاكين، انحنت تبكى غروب دمي، فهبت نسمة من حافة الوادي، وراحت أزهرٌ ستٌّ بغصن أكاسيا، بيضاء، تهبط فى هدوءٍ كالنعاس، وقد تدلّت أعينٌ خضراءُ منها، كى ترى قبري، وما أن لامست جسدي، العيونَ تغلغلت فى لحيتي، وهى استقرّت فى جراحي، ظنّنى العصفور بيت الفلّ، زنبقة رأتنى بين هذين الملاكين، اكتسيت بأزهُرٍ وندًى، وظنَّتنى وليمة. قالت الشمسُ: الذى يُدعى إليها مرةً فى العمر ليس يجوع! ما الذى تفصح عنه هذه اللغة العربية الشعرية فى مقطع من هذه القصيدة البديعة «مشهد الرسالة»؟ هناك أولاً هذا الجوّ الشفيف الذى يعبق بالطهر والنقاء والمسحة الروحية، متسقًا مع طبيعة المشهدين، وهذه اللغة الرائقة الشديدة التركيز والاقتصاد - لا إسراف ولا حشْوَ ولا مخايلة بقدرة على الاسترسال المفرط فى السطحية والسوقية، ثمَّ هذا الإيقاع الحادُّ الباتر الذى يأخذنا من حال السكون والاسترخاء إلى حيث تتدافع قوافل السّجاد، وأجراس المياه وعُريُ المراعي، وسيوف القمح، وتاج البنفسج. أيّ عالم هذا الغنيُّ بطيوبه وموسم خصوبته وعطاياه؟ وأيّ نسيم رائق وديع، يمسح وجوهنا بعبق شذاه، وعطر بيت الفل، وزنابق الوادي، وزهور أغصان الأكاسيا البيضاء؟ هذا هو الشاعر اللبنانى العربى الجميل، الذى رحل عن عالمنا يوم الاثنين الماضي، راهب الشعر المتجرد له، العاكف عليه، والمصلِّى دومًا فى محرابه- فهو كلُّ عالمه وكلُّ ممتلكاته - والقائم عند مذبحه لا يفارقه، ينضح جبينه وجلده وخلاياه ومسامُّه شعرًا، ويتنفس شعرًا، ويقتات - والجوع يفترسه وينوشه - شعرًا هو أقباس من روحه، ومِزقٌ من لحمه ودمه وأعصابه: إنها قرية لوْزٍ، تكتبين الأبيض الكوفيَّ فيها، وعلى كفّيكِ منديل نسيم، والمسا يأخذ عينيْكِ إلى الغابة فى نزهة نوْمٍ، يجمعان الكحل منها، ونعاسُ الورق البرَيّ يا حبيبتي، قليلةٌ أسماء زهر الأرض فى ذاكرتي، والشجر الواقف كالراعى وحيدًا، وصخور الوعْر ترعى ما رمى تمّوز من ظلِّ الغمامات لها. قليلٌ هذا الزرع، والعصفور، والعشب الذى تفرشه الأشهرُ فى بيت البراري، فأنا لم ألتفت إلا إلى ما فيك من عُريٍ أَمامَ الحِبر، هذا سهرى المكتوب كم عامًا سيمضي، قبل أن أكتشف النَّوْمَ؟ وكم ريحًا ستجري، قبل أن أُنقل عينيَّ من الله إلى الله، ومن رؤيا إلى رؤيا، بهذا الجسد الغامض، كمْ صندوقِ عتمْ، سوف تحتاج نساء الجنِّ، كى يملأنها فى آخر الصيف نجومًا، قبل أن تنزل عن نهديك كفِّى وهى ملأى، ذهبًا، زهرة لوْزِ، ليس تكفِينى عصور كى أرى بياضها، أُحبُّها لما تعود، وهى منذُ البدء حتى الآن، حتى آخر الدهر تعود، لونها أبيض كالماضي، وكالماضي، لآلئ فى سوار الريح أو فى خاتم الشمس نَداها، وكلما عادت أظنُّ أننى للمرة الأولى أراها، فكيف أنتِ؟ كانت مصر تملأ وجدان جوزيف حرب، وكثيرًا ما بادر إلى تلبية دعواتها لإلقاء شعره فيها، ولايزال جمهور معرض القاهرة الدولى للكتاب يذكر رائعته فى ذكرى «أمل دنقل»، وقصيدته البديعة عن «شوقى وحافظ» فى ملتقى القاهرة الدولى للشعر العربي. وسيبقى صوته يتردد فى أسماعنا، وعبْر سطور دواوينه، شاهدًا على شاعرية متفردة وجمال إنسانى نادر. لمزيد من مقالات فاروق شوشة