لن يكون من السهل على الحكومة الحالية او اى حكومة مستقبلية ان تعالج مشكلة البطالة التى اخذت منحى تصاعديا فى الآونة الأخيرة - خصوصا بين الشباب - بأساليب تقليدية تقوم من خلالها بدعوة المستثمرين للاستثمار فى مشروعات تخلق فرص عمل جديدة تمتص الاعداد العاطلة من الشباب. وأقول هذا لسببين، الاول راجع لأن فرصة العمل الواحدة تحتاج الى استثمارات كبيرة غير موجودة ومن غير السهل الحصول عليها فى ظل القلق الاستثمارى الذى تتسبب فيه الحالة السياسية والامنية، والثانى فلسفى يرتبط بأن ما يحتاجه المستثمر كثيرا ما لا يتوافق مع ما يحتاجه اقتصادنا، فمصر فى عين المستثمر هى مجرد سوق كبيرة تستوعب أى شىء بغض النظر عن خلق فرص العمل، بينما تحتاج مصر للتركيز على ميزات اخرى فى انتاجها من سلع تستطيع ان تخاطب الاسواق الدولية وتزيد من صادراتنا ومواردنا الهشة من النقد الاجنبي. لا بد هنا أن تتغير الصيغ العتيقة للفكر الاقتصادى الذى يرى فى التصنيع التقليدى وسيلة لتحقيق النمو، ولذلك أدعو فريق رئيس الجمهورية القادم أن يتبنى منظومة قومية لتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ليس بالاسلوب المتبع فى الوقت الحالى من خلال الصندوق الاجتماعى للتنمية والبنوك التى تعمل بموارده ولكن منظومة يكون لها 3 أهداف، وتقوم على 4 محاور، ولها مجموعة من الآليات اتناولها فيما يلي: فبالنسبة للأهداف: فمصر بحاجة الى »خلق فرص عمل جديدة«، وهذا هو الهدف الاول للمنظومة، ولا شك اننا نريد »تحقيق تنمية اقليمية« لا تركز على المناطق التقليدية، وهذا هو الهدف الثاني، ثم أننا بحاجة الى »زيادة التصدير«، وفى رأيى أن هذا هو الهدف الثالث. لذلك لابد من تشجيع كل مشروع يحقق هذه الاهداف الثلاثة بحوافز مادية سأتناولها بعد قليل. وبالنسبة للمحاور التى تقوم عليها منظومة تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة فإن الآتى هى اركانها: المحور الاول: هو «رعاية وإرشاد» أصحاب الافكار الخاصة بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة: وتشمل هذه الرعاية مجالات عديدة...ومبدأ الرعاية يبدأ من وجود «جهاز حاضن للأفكار الخاصة بالشباب» يدعمها ويوفر لها المعلومات، ويأخذ بيد صاحب المشروع ليقيه شرور البيروقراطية وسوءاتها، ويوفر له خدمات مثل الحصول على التصاريح من كل الجهات، ويقدم له المعلومات والاحصاءات الداعمة لأفكاره، ويعاونه على إعداد دراسات الجدوي، واختيار الموقع، وكل ما من شأنه المعاونة الجادة حتى يقام المشروع ويبدأ فى الانتاج، بل قد يتعدى الامر ذلك برعايته بتقديم خدمة المحاسبة او تشغيليا من خلال تنظيم العمالة والاجور أو فنيا بتقديم الاستشارات الهندسية والفنية. ومثل هذه الرعاية تتطلب ان يتواجد «الجهاز الحاضن» فى القرى والمدن،وأن يتم تدريب العاملين فيه على كل ما سبق. المحور الثاني: يتعلق بتحفيز أصحاب تلك المشروعات، وهنا يأتى دور الدولة، فعلى أساس ما يحققه المشروع الجديد لأى من الأهداف الثلاثة سالفة الذكر توفر الدولة لصاحب المشروع «حافزا ماديا». فمن يخلق اكبر عدد من فرص العمل، ومن يقيم مشروعه فى منطقة محببة تخطيطيا، ومن يكون انتاج مشروعه للتصدير سيحصل على أكبر قيمة للحافز، وليكن هذا الحافز نسبة تتراوح ما بين 10% و 30% من التكلفة الاستثمارية لكل مشروع. وبالطبع إن كانت تكلفة المشروع الصغير لا تزيد على 500 الف جنيه، فكل ما يحصل عليه صاحب هذا المشروع لن يزيد على 150 الف جنيه إن حقق كل الأهداف. وبمثال رقمى بسيط فإن أقصى قيمة للدعم المادى الممكن أن تقدمه الدولة لخمسة آلاف مشروع سنويا تبلغ متوسط تكلفة الواحد منها 250 الف جنيه هو 375 مليون جنيه ترصد سنويا فى موازنة الدولة. المحور الثالث: يرتبط بالجوانب التنظيمية والادارية، حيث أن تنظيم المؤسسات الصغرى والمتوسطة يستلزم أن تتوسع الدولة فى انشاء «الحاضنات الصناعية العادية والمميزة» المستوعبة للمشروعات المطلوبة فى المحافظات والمدن التى تتصف بارتفاع معدلات البطالة، وذلك خارج الرقعة الزراعية حتى لا يتم التزاحم على ما تبقى من اراض فى الوادى الضيق. وسيساعد ذلك على خفض تكلفة كل مشروع جديد لعدم الحاجة للحصول على الارض، ولعدم الحاجة للحصول على تراخيص بناء وتقديم طلبات للحصول على الكهرباء والمياه، وكلنا يعلم كم أن ذلك من الامور غير اليسيرة لكثير من منشآت الاعمال الصغيرة. المحور الرابع: يتعلق بالجوانب التمويلية، وكلنا يعلم تعدد خطوط التمويل سواء لدى الصندوق الاجتماعى او لدى البنوك التى تمول من تلك الخطوط التمويلة. فالمشكلة ليست فى توفير التمويل، لكن المشكلة ذات وجهين، الاول هو «تكلفة التمويل» بسبب ارتفاع اسعار الفائدة، والثانى هى «مشكلة الضمانات العينية» التى تطلبها الجهات المصرفية الممولة خصوصا من الشباب. وفى رأيى أنه لا يوجد ما يضير إطلاقا أن يصدر تشريع يحدد «حداً أقصى للفائدة المصرفية» على الاموال التى تقرض لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة خصوصا فى القطاعات الانتاجية كالزراعة والصناعة، وسيمكن هذا التشريع من معالجة الوجه الاول لمشكلة التمويل. أما الوجه الثانى للمشكلة فالواقع يشير الى أن الشاب المتعطل لا يمتلك ضمانات، مما يمنعه من الاقتراض فيجرى وراء ضامن فردى يستغله. لذلك أدعو لتفعيل دور «شركة ضمان المشروعات الصغيرة والمتوسطة» ودعمها ماديا ومساهمة كل جهات التمويل فى رأسمالها بما يمكنها من التأمين على القروض الصغيرة والمتوسطة بنسبة ضئيلة من التكلفة التى لا ترفع من عبء التمويل لمن يقترض لتمويل مشروعه. لعلنا نتفق على أن حل مشاكلنا الاقتصادية لن يتم بزيارات الدول الصديقة فقط رغم عدم وجود اى تغير فى تشريعات الاستثمار التى كانت سببا فى بعض مشاكل المستثمرين من هذه الدول. لكن حل المشاكل بواقعية يتطلب ان نتفهم ما تحتاجه بلدنا، وان نعى أن العبرة ليست فى الاصنام القائمة فى شكل مؤسسات ولكن بفعالية تلك المؤسسات وقربها من أصحاب الحاجة مع خلعها لثوب الجمود وتغييرها القناعة بأن ليس بالامكان افضل مما كان.. فهل من متبن لذلك؟؟ استاذ الاقتصاد بتجارة الزقازيق محافظ البنك المركزى الاسبق لمزيد من مقالات د. محمود ابوالعيون