يتراكم الغيظ في الأعماق من فرط الحماقة المغموسة في الخيانة والتي يكشف عنها مجمل سلوك المنتمين لجماعات الإرهاب بإسم الدين. هؤلاء الذين أتقنوا تجريف الحياة من أي ابتهاج, وقاموا بتجريف معاني الدين ومقاصده في آن واحد. يطل في الذاكرة صوت جمال عبدالناصر كاشفا لنا جوهر أطماعهم عندما وصفهم بأنهم طلاب سلطة لا أكثر ولاأقل, ونتيجة لانشغالنا ببناء واقع مصري وعربي مختلف, لم نقم بدراسة مقاومة هذا الجهل الزاحف المرتدي لعباءة التدين. والمؤكد أن أبرز أخطاء أنور السادات كان إخراجهم من الجحور; لعلهم يهدمون ما عجز هو عن الإيمان به, ألا وهو الإستمرار في تنمية العدالة الإجتماعية التي فجرتها ثورة يوليو بدء من الإصلاح الزراعي ومرورا بخطة تنمية شاملة أضافت لعموم المصريين تعليما متميزا بشهادة واحد ممن نالوا جائزة نوبل وهو أحمد زويل. ومن فرط ذكاء التآمر ركز المتأسلمون علي جامعة الأزهر فأشاعوا فيها جمودا وتحجرا لمسناه في الشهور السابقة, وكأنهم قد عرفوا كيف يتسربون كالفيروس الحامل لوباء الجمود, لتفريغ الجامعة العريقة مما أضافه لها جمال عبد الناصر من تطوير, فقد جاء الرجل أن يوقظ الشعلة التي أرساها رفاعة رافع الطهطاوي إمام البعثة العلمية الأولي الموفدة من قبل محمد علي لباريس فهو من ذهب إلي باريس إماما لبعثة من الشباب المصري, وعاد مناديا بالتطور والتطوير. لذلك شاء عبد الناصر أن ينقذ الأزهر من مسلسل التلقين لينقل الدراسة به إلي دنيا الدراية بما يجري من أعمال علمية وعملية صالحة تتطور بها الحياة علي أرض الكنانة فدخلت الدراسات من زراعة وطب وهندسة إلي جامعة الأزهر الشريف. أكتب ذلك وأنا من لم يخرج من دائرة الغيظ مما فعلته قلة من المتزمتين بالجامعة الجليلة, بدءا من مقاومة إمامها الأكبر بتسميم الطلبة ونهاية بحرق مباني الجامعة, وكان بركان الغيظ في القلب يدير مشاهد من زيارتي لليابان, لحضور احتفالات ذكري تفجير قنبلتي هورشيما ونجزاكي باليابان عام1986, وكانت الدعوة موجهة من نقبل إتحاد الأديان الياباني, حيث يوجد باليابان أكثر من دين وتختلف عقائد كل دين عن الآخر, لكن هناك ولاء بين الجميع للوطن الياباني. وكانت الوفود الإفريقية والآسيوية ممثلة للعديد من بلدان القارتين, وكانت دهشتي شديدة لأن معظم من جاءوا لتمثيل بلادهم الإسلامية هم من خريجي جامعة الأزهر الشريف, وقلب أي منهم كان يلهج بالثناء علي مصر التي وفرت لهم العلم بتطور الطب والهندسة, بالإضافة إلي عمق الدراية بالدين, فضلا عن الإقامة بمدينة البعوث الإسلامية. لن أنسي قول عالم من جاركتا نحن المسلمون نحفظ عن ظهر قلب أن المسجد الأقصي هو أولي القبلتين, والمسجد الحرام هو ثاني القبلتين, والمسجد النبوي الشريف هو ثالث المساجد التي يشد إليها الرحال, وعلينا ألا ننسي أبدا أن مصر أسست الأزهر الشريف الذي يشد إليه الرحال من كل بقاع الدنيا خلال الألف عام الماضية, ينشده كل من رغب صحيح الفهم لحقائق الدين. وتابع به المسلم الأندنوسي قوله لي ويبقي علي مصر وعلمائها مهمة صيانة الأرهر من تخلف الجمود الذي بدا كفيروس يأكل الجسد المسلم في أنحاء الأرض ولا يقاوم التعصب والجمود إلا أن يصحب تعلم الدين إضافات من علوم العصر وكيفية تذوق الأداب والفنون. واشترك في الحوار صديقي الطبيب النفسي الكبير مؤسس قسم الطب النفسي بطب الأزهر د. محمد شعلان, فقال من الخطايا الصارخة في بلادنا سواء في كليات الأزهر العملية أو بقية جامعاتنا, هو تدريس العلم البحت من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء, مع نسيان دراسة الآدآب العالمية, وهذا شرط أساسي لأي دارس للفروع العلمية التطبيقية في جامعات العالم المعاصرة, فدارس الطب والهندسة والكيمياء والذرة وكافة الفروع التي توصف بأنها علوم بحتة لابد له من دراسة عدة كتب منها علي سبيل المثال كتاب عمالقة الأدب الذي ترجمه للعربية د. لويس عوض, فضلا عن دراسة أصول تذوق الموسيقي والفن التشكيلي, فالطبيب لن يعالج الجسد وحده, فالجسد هو بيت الروح, ودون فهم للمشاعر الإنسانية وما يحركها من فنون رفيعة ويكشف منابع نوازع الجمال فيها لن يكون طبيبا ناجحا, وما أقوله عن الطبيب ينطبق علي عموم المتخصصين في كل مجالات العلم أضاف رجل الدين القادم من إندونسيا كنت أسير علي قدمي من مدينة البعوث من الدراسة إلي الأوبرا كي أحضر حفلات أول أوركسترا سيمفوني في الشرق الأوسط الذي أسسه ثروت عكاشة, وكان يصحبني إلي إستيعاب الموسيقي الكلاسيكية شروح د. حسين فوزي وهو العالم بعلوم البحار. وعندما كنت ألتقي بمن يحرمون الموسيقي أذكرهم بالفارابي هذا الفيلسوف المسلم الذي وضع كتابا في علاقة الموسيقي بالفلسفة وبالدين, ولذلك أتمني أن يستعيد الأزهر علاقته بكيفية تذوق المشاعر الراقية عبر الموسيقي والفنون الرفيعة, سواء في كلياته النظرية أو العملية, لأني ألحظ تدهورا في مستوي الثقافة عند أجيال جديدة ترسلها أندونسيا لتلقي العلم بالأزهر, هذا الجامع الذي علمنا كيف ندير الحياة وكيف نبني بلادنا بعد الأستقلال. أذكر أني نقلت تلك الرسالة إلي الأمام الأكبر السابق, فسمع لي بنصف أذن وبتهذب شديد لكنه لم يعطني إجابة شافية, أتمني أن أجدها عند من تطوف روحه بتسامح خلاب وتتسع آفاق تفكيره لكل ما في العصر من تطور وأعني به إمامنا الأكبر فضيلة الشيخ أحمد الطيب. لمزيد من مقالات منير عامر