كما أن الفلسفة أم كل العلوم, فالصحة هي ابنة كل العلوم. فالفلسفة هي التفكير في التفكير ذاته!! هي محبة الحكمة وطلب المعرفة, والسعي لفهم الوجود والكون والحياة, ومنها بزغت كل أصناف العلوم. والصحة هي جودة الحياة ذاتها, هي حالة اكتمال السلامة جسديا وعقليا واجتماعيا, وهي وليدة المعارف والحكمة والعلوم كلها. في جامعة الاسكندرية كان هذا المؤتمر الفريد, باسمه العبقري( الصحة ابنة كل العلوم) حيث التقي شيوخ الأساتذة وشباب الباحثين لتدارس إسهامات العلوم في الصحة إلي جانب استعراض إسهامات معاهد جامعة الاسكندرية وكلياتها في البحوث والتطبيقات الصحية. بدأ المؤتمر بمحاضرة شاملة عن الصحة والعلوم الطبيعية ألقاها الدكتور مصطفي السيد فبينت إسهامات الكيمياء وتكنولوجيا النانو في الطب, وكانت نموذجا لإسهامات أبناء مصر النابهين في البحث العلمي العالمي وتخفيف آلام البشرية. أردفتها محاضرة طبية( الصحة تبدأ من القلب), فالقلب هو ملك الجسد, يضخ بلا كلل من لحظة الولادة للحظة الوفاة, ولو جمعت الدم المتدفق في سنين العمر لملأ بحيرة صغيرة, ولو قدرت القوة العضلية التي عمل بها في فترة الحياة لرفعت أثقالا تعلو الجبال, والمذهل أن الانسان يسيء استخدام تلك العطية الإلهية الغالية بعادات رذيلة بينما الممارسات الصحيحة تحافظ علي سلامة القلب وحيويته. تنوعت موضوعات المؤتمر بين العلوم الطبية والعلوم البحتة والطبيعية, والعلوم الاجتماعية والانسانية, فكان اللقاء ثريا وممتعا في آن, فهذه أحاديث عن الصحة والميثالوجيا والأساطير في عصور الفراعنة والإغريق, لتعلم أن قضية الحياة والموت, والبعث شغلت فكر الانسان منذ فجر الزمان. وهذا حديث عن تاريخ المستشفيات وتطورها عبر العصور فتتعجب من تطور الفكر الانساني في احتوائه للمرض وتعامله معه, وذاك استعراض ممتع للأطباء في الفن, يتبعه حديث عن الصحة والسينما المصرية التي أعلت مكانة الطب والطبيب, وروجت في الوقت نفسه لمفاهيم مغلوطة( حادثة تذهب بالبصر وأخري تعيده)!! كما رصدت تطور الطب والعلاج, فالحالات الميئوس منها( سينمائيا) في مطلع القرن الماضي باتت حالات عادية يسهل علاجها بإذن الله. وتلك محاضرة عن الصحة والجغرافيا وخرائط المرض فتتعجب لتفاعل الأرض والناس مع الصحة, كما تتابع دراسات في علوم البيئة والهندسة الانشائية وتخطيط المدن وانعكاساتها علي الصحة العامة, كما تتعرف علي الأوبئة والحضارة الانسانية, ويتحدث وكيل وزارة الصحة عن الصحة والمجتمع. وهناك مجموعة من المحاضرات المختلفة عن علوم الزراعة والصحة, تتعرض للمبيدات التي أنقذت المحاصيل ولوثت الأرض, وتتناول سلامة الغذاء والأمن الغذائي, وتتعرف علي فوائد عسل النحل والألبان, وتصحبك محاضرة أخري في جولة شهية بين الأطباق العالمية وتأثيرها علي صحة الناس!! وتذهلك الآفاق المستقبلية لتطبيقات الهندسة الوراثية وهندسة الأنسجة في الغذاء والعلاج, وتسعد بإسهامات الجامعة الواعدة في هذا الشأن. وتلك محاضرة عن علوم المواد تتناول الأعضاء الاصطناعية والأجهزة التعويضية ومواءمتها الحيوية لجسم الانسان. كل الكليات حتي البعيدة منها شاركت بالأبحاث المبتكرة, فهذا يتحدث عن الاعلان والتصميم كأداة للتثقيف الصحي, وذاك عن تصميم ملابس الأطفال والصحة. كليات الفنون الجميلة والتربية الرياضية والتربية النوعية أعطت للمؤتمر مذاقا خاصا, فبينت كيف تؤدي التربية الصحية إلي جودة حياة الفرد والمجتمع, وتطرب لدراسة مثيرة حول الموسيقي والصحة, لتعلم أن القلب وأعضاء الجسد تنبض بإيقاع يعزف موسيقي داخلية تتناغم مع الموسيقي الخارجية فتستجيب لعلاجاتها, وتتابع مستمتعا دراسة حالة عن الفنون التشكيلية ودورها في علاج الاضطرابات النفسية شارك فيها استشاريو الطب النفسي وأساتذة الفنون الجميلة!! كما تري الفن ودوره في تحفيز الأطفال علي التغذية السليمة, وتنمية بعض المهارات اليدوية لدي الطفل التوحدي, والإبداع الحركي والتعليم النشط وأثره علي صحة النشء. وهل الصحة والرياضة تحتاج مني إلي تأكيد؟ هذا المؤتمر كان غذاء للعقل والروح معا, فقد واكبه حفل موسيقي ومعرض للفنون( البيئة والصحة في المحتوي البصري) وورش عمل عن الفن والنحت والصحة النفسية والتمريض, كما تم تسليم جوائز للبحوث المتميزة لشباب الباحثين. تأملت المشهد وما واكبه من انطباعات * فقد وقفت مبهورا أمام هذا الكم من الأساتذة موسوعيي المعرفة, فكأنك حين استمعت إليهم قرأت عشرة كتب عن الصحة بجوانبها المتنوعة, وقلت لنفسي هذا المؤتمر كان يحتاج مساحة زمنية أرحب وحضورا إعلاميا مكثفا لينقل هذه المعارف إلي عامة الناس. * تأملت كليات الجامعة وهي تعمل معا, وما كان لهذا العمل أن يخرج بذلك الثراء لولا العمل الجماعي, وإنكار الذات, فصار وساما علي صدر الجامعة كلها وكل من شارك فيها. * في يقيني أن كل محاضرة في هذا المؤتمر تصلح لأن تكون مقالا طويلا بل كتابا متميزا, وأتمني علي جامعة الاسكندرية أن تصدر سلسلة ثقافية أو كتابا جامعا لوقائع هذا المؤتمر الشامل. الشيء الذي يستحق التنويه أن المؤتمر عقد في قاعة للمؤتمرات, علي مسافة أمتار قريبة, وبعد أيام قليلة من موقعة حزينة جرت في أرض الاسكندرية, وكأنه يرسل برقية للجميع أن حب الوطن يتجاوز الفرقة والانقسام والهدم, ويكون بالتضافر والعلم والتنوير والبناء.