يسند الحزن ظهره علي بقايا عمود معبد فوق جبل أثينا, يقلب النظر عند التقاء السفح بالجبل, حيث مدرجات مسرح يوناني قديم يتردد في أجوائه صوت إنسان مبلل بدمع مأساة وأصوات منشدين الحزن ينزل من الجبل متوجها إلي مقهي فقير, ينضم إلي مجموعة راقصين من الرجال في أرديتهم السود, كل يمسك بيد الآخر, يضربون الأرض بأقدامهم علي وقع ضربات قوس علي أوتار كمان يعزف عليه مغن يوناني عجوز متهدم. من بين مجموعة الراقصين علي ربوة جبلية, يخرج علينا' زوربا' فاردا ذراعيه وقدمه تدق الأرض تمسك بأطراف نغمة لم تخن إيقاعها... هاهو الإيقاع داخل جسد' زوربا' يستعيد نبله فينتشي اللحن الجميل ناشرا غلالته الشفيفة الملونة علي الأحياء والأشياء. من الموسيقي التي ملأت البحر الأبيض المتوسط يوم أن سقطت الآلة الوترية' الليرا' من' أورفيوس' ذات صباح جميل مشرق علي أثينا, أخذ' ميكيس تيودوراكيس' لحنه الذي صاحبه في المنفي والسجن وفي الجبل مطاردا... ومن نهر الحكمة العذب عند اليونانيين شرب... ومن اتحاد الجميل والفاضل في العقل الأثيني تعلم... فكانت موسيقاه كأنها الدواء لجرح في أعماق تيودوراكيس عانق في أعماقنا جرحا. علي خشبة المسرح يرقص' زوربا' اللحن الجبلي القوي, الذي لما أعيته شارات الظلم تنشر ظلها الفاسد علي الأمكنة عاهد الجبل علي ألا ينخفض له شراع مهما كان عنف العاصفة وألا يحني رأسه لسلطة أينما كانت. الكورس اليوناني القديم في زيه الأبيض إلي يسار المسرح يشهد علي زوربا وهو يتنقل راقصا من ربوة مرتفعة إلي سهل منخفض كأن روح اليونان الخالدة تريد أن تنفلت انفلات الطير من القفص المادي بعيدا عن مظالم البشر وحماقاتهم لتجيب علي تساؤل' أريستوفان': لماذا لا تصير الطيور سادة علي كل شيء فيبنون مدينة في الهواء ويحكمون البشر الذين يحيون في جو الأرض... هؤلاء البشر الذين يحيون حياة معتمة في الأسفل ويذبلون كأوراق الشجر وقد بهت لونهم وفارقتهم الروح الخالدة؟ اضحك يا' زوربا' ما وسعك الضحك وجنب نفسك الهموم, فنهار الحياة قصير وليل المدن يترصدك. هذه موسيقي' تيودوراكيس' قد أصغت إلي كلمات الأغنية الشعبية اليونانية القديمة إصغاء فيه تفكر وخشوع... وهانحن نستشعر في الموسيقي حلاوة تتسلل إلي القلب تغرس فيه معرفة غامضة بالله والحرية والعدل. اللحن البصري بخطوطه وألوانه ونوره وظله المتجسد في تصميم رقصات الباليه ل'لوركاماسين' في فضاء المسرح يمتزج بهارموني اللون العاطفي الصادر من آلات أوركسترا وكورال راديو أثينا السيمفوني, ومن حركة أصابع' تيودوراكيس' تقود النغم ورعشة الإيقاع تتلبس جسده... يتكشف لنا' زوربا اليوناني' من خلال الرقص قويا ونبيلا وفيه شيء من ضعف وبعض حماقات. 'زوربا' يبكي ويجاهر بالبكاء عند الشعور بالحزن كما يجب أن يكون عليه البكاء, ويفرح' زوربا' ما وسعة والفرح وكما يجب علي إنسان سعيد أن يفرح, فإن استعصت عليه الكلمات في الحالين يرقص دون أن يسمح لشيء أن يفسد عليه فرح الرقص وحزنه, وإن استعصي عليه الرقص حين تتكاثر عليه الجراح والشرور يحتضن آلة السانتوري ليستقطرها لحنا لم يخن إيقاعه وموسيقي صادحة نقية كالبللور تأتي بالعصافير والأطفال ونجمة الصباح وقطر الندي وسحابة بيضاء ملونة وقوس قزح. قلب' زوربا' الموسيقي يمنحنا حبا نقيا كوردة دون شائبة تقلل من مقامه العالي الرفيع ويستمطرنا حنانا يرطب قساوة قلوبنا التي خاصمت الموسيقي واللحن...قلب' زوربا' الموسيقي يسمعنا صوت نفسه العزيزة الراضية القانعة المرحة الغاضبة المتمردة الحيية المتواضعة السامقة...قلب' زوربا' موسيقي عذبة نقية فاضلة. كاد يموت' زوربا' من الألم علي وفاة طفله الصغير.. وبينما كان الآخرون يبكون بدأ' زوربا' في الرقص.. قال آخرون:' لقد جن' زوربا'.. وقال' زوربا':' لو لم أكن رقصت لكنت مت' فوق ربوة مرتفعة بجزيرة كريت موطن' كازنتزاكيس' مؤلف رواية وشخصية' زوربا اليوناني' اصطف الراقصون في صف بينهم مسافات تتسع بطول مد ذراع كل راقص ووضعها علي كتف الراقص المجاور له.. حركة الأرجل تبادلية بحيث تتحرك الأرجل فتوضع القدم اليسري أمام اليمني ثم توضع بعدها الرجل اليمني أمام اليسري.. في أثناء ذلك يتحرك الصف بأكمله إلي اليسار وإلي اليمين بسرعات مختلفة حسب الإيقاع الذي يصاحب موسيقي زوربا.. يترك أحد الراقصين' زوربا' الصف ليؤدي خارجه رقصة تصاحب إيقاع اللحن الجبلي القوي بينما تصدح في فضاء المكان المرتفع القريب من الله أغنية' داليدا' المصرية اليونانية' رقصة زوربا': عندما تنساب الموسيقي وتتدفق خيوط اللحن تذهب المتاعب بعيدا وتختفي أحزان قلبي أنسي غياب من أحب وأنسي أحلامي الجميلة المؤجلة يغني القلب أغنيته الأثيرة ويصفو العقل ويرق عندما تبدأ الموسيقي في التسلل إلي عمق روحي لا أدعها تتوقف أبدا أبدا موسيقي' تيودوراكيس' هي الزمان اليوناني في انتصاراته وانكساراته... هذا هو' زوربا' يضرب بقدمه الأرض لعلها تفيق وتستيقظ من ليل احتلال النازي... وهذا هو صوت' تيودوراكيس' تصرخ به آلة نفخ نحاسية في رفضها لديكتاتورية عسكرية أصابت ديمقراطية العقل الأثيني في مقتل... وآلة هارب ضمن فريق الأوركسترا شاركت من زمن في نقل موسيقي مصر الفرعونية إلي أوروبا يعزف عليها عجوز يوناني جالس عند أقدام الأكروبول ينظر في حزن إلي فتاة يونانية يمسك بيدها جندي أمريكي يقطن القاعدة العسكرية القريبة ومن حولهما بقايا أعمدة وتماثيل. اليونان أرملة في زيها الأسود وحيدة فقدت رجلها في معركة ضد العدو القابع في الداخل... اليونان امرأة مكتملة النضج تشيح بوجهها بعيدا عن مستثمر شرير ومغامر أجنبي, تجد في' زوربا' رجلها القوي وفي' تيودوراكيس' فنانها الصادق الذي يجاهر بالعداء للموسيقي المخدرة ويقدم لمواطنيه موسيقي تحرض علي الثورة وعلي طرد القواعد العسكرية الأمريكية.. اليونان رجالا ونساء علي خشبة المسرح ترقص للحرية ولانتصار العدل وفرح الأطفال. لمزيد من مقالات أحمد هريدى