سمعنا وسوف نظل نسمع كثيرا عن حقد الفقراء علي الأغنياء ومن كثرة ما تتردد هذه المقولة لم نتنبه لفحصها والتعامل معها باعتبارها سلوكيات أفراد أم ظاهرة اجتماعية عامة.. فهي عندي مقولة زائفة وافتئات علي الفقراء إذا ما اتفقنا علي تعريف محدد واضح لمعني كلمة الأغنياء. فالغني والفقر في مصر جزء من القدر الإنساني. منذ فجر التاريخ وفي الحياة فقراء وبها أيضا أغنياء. فلماذا الآن الحديث المكرور عن حقد الفقراء. لقد عرفنا الأغنياء طويلا ولم نعرف الحقد عليهم. فلماذ الآن يكثر الحديث عن حقدهم. خلال سنوات قليلة تغير مفهوم الفقر قليلا وتغير مفهوم الغني كثيرا. فالأغنياء الذين راكموا ثرواتهم بالعرق والجهد والشرف والأمانة عبر السنين لم تصبهم أحقاد الفقراء. ولكن الطفرات المشبوهة التي نقلت كثيرين من دائرة الفقر المدقع إلي الثراء الفاحش هي التي أوجبت الحقد وسوف تظل توجبه وهو في الحقيقة ليس حقد الفقراء علي الأغنياء وإنما هو حقد المسروق علي السارق. فقد أصبح مفهوم الأغنياء يجمع بين أناس لا وجه للشبه بينهم فكيف تجمع بين من تطورت ثروته عبر السنين بالجهد والعمل الدءوب في إطار أخلاقي مقبول ومطلوب وبين من تفجرت ينابيع الثروة بين يديه بالرشوة والفساد والمحسوبية وتبادل المصالح والمنافع واستلاب حقوق الآخرين. الفئة الأخيرة هي التي صاغت ورددت مفهوم حقد الفقراء لحماية ما طالته أيديهم بغير حق من حقوق الفقراء وحقوق الأغنياء الآخرين. تطور مفهوم حقد الفقراء من صيحة اجتماعية إلي شعار سياسي وأسهمت الحكومات المتتابعة في تكريس هذا الشعار وتداوله. فقد أصبح شعار حقد الفقراء وسيلة للتغطية علي الفساد الحكومي الذي سمح بهذه الطفرات المشبوهة. فمن المعلوم أن الثراء الفاحش لن يأتي إلا من خلال التعامل مع الحكومة في الأراضي والتوكيلات والاحتكارات. أغنياء الفئة الأولي في مصر طوروا منظومة قيمية محورها العطف علي الفقراء ورعايتهم وتوجيههم وتوعيتهم وقد تركوا وراءهم أعمالا للخير والبر والإنتاج والتعليم. ولكن أغنياء الفئة الثانية لايصلحون في الغالب لقيادة الرأي أو التوجيه والتوعية فتمكنوا اقتصاديا وتراجعوا اجتماعيا وفقدوا مكانتهم الحقيقية في وجدان الآخرين. في ظهيرة أحد أيام الخمسينيات دخل وكيل النيابة مكتبه في مركز إيتاي البارود ليجد في انتظاره فلاحا مصريا أرهقته الأيام وأنهكته المظالم وتركت السنين في وجهه تجاعيد الفقر. كانت يد شرطي قوي البنية تمسك بالرجل من فتحة جلابيته المهلهلة التي لاتقوي علي التماسك تحت ضغط قبضة ذلك الشرطي. أمره وكيل النيابة أن يترك الرجل الذي وقف خائفا يترقب مصيره. سأله وكيل النيابة الأسئلة المعتادة في بداية التحقيق عن اسمه وعمره وحالته الاجتماعية. كان الرجل في أربعينيات العمر متزوجا ولديه أربعة من الأبناء وثلاثة قراريط من الأرض يزرعها ليقتات منها ستة من الأحياء في أرض مصر. كان الرجل قد صدر له قرار من لجنة الإصلاح الزراعي بتملك خمسة أفدنة من أراضي الخاصة الملكية التي كانت قد صودرت بقرارات الإصلاح الزراعي. وجاءت المفاجأة فقد رفض هذا البائس الفقير أن يتسلم هذه الأفدنة فاستحق أن يقبض عليه ويساق إلي مركز الشرطة ليمثل أمام النيابة. وهناك سأله المحقق عن السبب فكانت إجابته واحدة لاتتغير ردا عن كل تساؤلات وكيل النيابة العمومية موش بتوعي... آخدهم ازاي. وحاول المحقق أن يقنع الفلاح المصري بأن هذه الأفدنة الخمسة كفيلة بتغيير مجري حياته وتحسين أحواله البائسة هو وأولاده من بعده. وكانت إجابته الثانية طيب هما كانوا عملوا لصاحبهم إيه ؟؟؟ كان الفلاح المصري يشير إلي أن الملك فاروق الذي امتلك آلاف الأفدنة ظلما وعدوانا ثم خرج مطرودا من بلاده ومن أرضه. وهنا نهض وكيل النيابة من مقعده ليشد علي يد الرجل ويصيح به أنت أكثر رجل محترم لقيته في عملي. ويطلب له للمرة الأولي في حياته كوبا من الشاي يحتسيه في مكتب وكيل النيابة العمومية. ولم يخبرني المستشار صبري البيلي محافظ القليوبية السابق بمصير الأفدنة الخمسة. وفي ظهيرة يوم من أيام العام الماضي دخل أحد الأصدقاء معرضا ومخزنا علي أطراف القاهرة يشتري منه بعض مستلزمات البناء. كانت جدران المعرض والمخازن مغطاة بصور ضخمة الحجم لصاحبه. وفي كل مكان من المعرض عبارات الثناء علي رجل الإيمان والبر والتقوي. لم يكن الرجل من ذوي الاتجاهات الدينية ولكنه كان تاجرا سخر السياسة لخدمة أعماله وسخر الدين لخدمة نشاطه السياسي في الانتخابات بين الفقراء. كان باختصار رجلا براجماتيا حتي النخاع. مكنته هذه البراجماتية من أن تتوسع أمبراطوريته المالية كثيرا. وحين تعرض صديقنا لأزمة نصب واضحة من هذا المعرض الكبير ظن أن التقوي سوف تعيد له حقوقه الضائعة وأن الإيمان سوف ينصفه. ولكن شيئا من ذلك لم يقع فقد ضاعت حقوقه رغم وصوله بشكواه إلي أصحاب معرض رجل البر والإيمان. ولاتزال الصور الضخمة تكسو جدران المكان. أفاق صاحبنا علي ما كان من أمر صاحب هذا المعرض الكبير منذ سنوات حين استولي علي مساحات واسعة من الأرض المجاورة لمعرضه وأنشأ بها أسوأ تجمع سكني في القاهرة. وحين اعترض محافظ القاهرة علي هذا العبث. استجمع رجل البر والتقوي والسياسة والبيزنس اتصالاته واستنفر أعوانه في أجهزة الدولة والإعلام وانتصر في النهاية علي المحافظ وذهب الإثنان وبقيت الجريمة تعاني منها أجيال قادمة. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين