كان لمسألة الشرعية وجدليات ظهورها وصيرورتها بين الأمة والجماعة والدار والسلطة, تأثيرات عميقة في مصائر الدولة ومفهوم السيادة علي مدار العصور. وقد عادت المسألة لتلعب دورا كبيرا في أفهام وأخلاد وذهنيات كثيرين من العامة والخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين; ولذلك رأيتها حقيقة بالقراءة من جديد وسط المجريات الراهنة والعاصفة مع الجهاديين ومع الإسلام السياسي. وكنت قد استظهرت في دراساتي لمسألتي الشرعية والسيادة, أو العكس, في الأزمنة الكلاسيكية المتقدمة والمتأخرة; أن ما صار إليه الفقهاء والمتكلمون والمؤرخون والجغرافيون بالنسبة إلي هذين المفهومين فيما بين القرنين الثاني والخامس للهجرة, والثامن إلي الحادي عشر للميلاد, أن هناك مفهومين للشرعية, أحدهما تأسيسي, وسميته المشروعية, والآخر شرعية مصالح, إذا صح التعبير. وهيكل الشرعية التأسيسية الوحدات الثلاث: وحدة الأمة, ووحدة الدار, ووحدة السلطة. ويبدو هذا الفهم للمشروعية أو السيادة المكتملة في أقدم التعريفات التي وصلت إلينا من طريق الفقيه الكبير أبي حنيفة النعمان بن ثابت(150 ه/767م) في رواية تلميذه محمد بن الحسن الشيباني(189 ه/804م) عنه. يذكر أبو حنيفة أن دار الإسلام هي الدار التي تسود فيها شرعة المسلمين وإمامهم, وأن تكون مستقلة في الشرعة والحدود عما يتاخمها من دور الكفر والحرب, وأن يكون فيها المسلم والذمي آمنين بالأمان الأول. ثم جاء الشافعي(204 ه/819م) فقال في الرسالة إن المسلمين أجمعوا أن تكون الدار واحدة, وأن يكون الإمام واحدا, مثلما هي الأمة واحدة. ونلاحظ في تعريف الشافعي أنه مجرد إذا صح التعبير لأنه كان يكتب في النظرية الفقهية, في حين أن تعريف أبي حنيفة مستمد من التجربة التاريخية للأمة وتكون دار الإسلام زمن الفتوحات والعصر الأموي(632-750 م). ولست أقصد هنا إلي دراسة التكون التاريخي للأمة والسلطة, بل إلي قراءة المفاهيم الأساسية هذه قراءة تحليلية لملاحظة مآلاتها. فأبو حنيفة ومدرسته, وكذلك مالك بن أنس(-179 ه/795م) ومدرسته, أعطوا الأولوية للوحدتين: وحدة الأمة( لاستنادها إلي القرآن), ووحدة الدار في التماسك السياسي وفي الأحكام. في حين حاول الشافعية إقامة توازن بين هذين الأمرين, وأمر وحدة السلطة أو الإمام الواحد. واهتم الحنابلة علي وجه الخصوص بوحدة السلطة أو الإمام أو من يسيطر سياسيا في الدار. ولذلك فقد اختلفت آراؤهم عندما بدأت تلك الوحدات تتعرض للاختلال الواحدة بعد الأخري. إنما قبل الدخول في الحكم علي الاختلالات, وأيها تزيل الشرعية؟ أود التعرض بإيجاز إلي ما سميته' شرعية المصالح', وقد عنيت بها تلك الاختلالات التي اعتبرها الفقهاء وبعض المتكلمين مخلة بالشرعية. ومن ذلك طريقة الوصول إلي السلطة, وتجاوز حد السلطة من جانب ولي الأمر, ثم انقسام السلطة أو ظهور السلطات رغم بقاء الجميع من الناحية الشكلية الفقهية تحت ولاية الإمام أمير المؤمنين. كان الحسن البصري(-110 ه/728م) قد اعتبر إمارة معاوية بن أبي سفيان غير شرعية, لأنه قام بثلاثة أمور: إبتز الأمة أمرها بغير شوري, وولي ابنه الأمر من بعده, واحتكم إلي الهوي والمصالح في الدماء والأموال. بيد أن أكثرية الفقهاء( وليس المتكلمين) قالت بشرعية سلطته, وسمت عام اجتماع المسلمين عليه: عام الجماعة(40 ه/660م). وقد جري تعليل ذلك فيما بعد بأنه أنهي الفتنة وحقق الاستقرار, واستمر في الغزو والصوائف والشواتي إلي حين وفاته عام(59 ه/678م). وبالطبع فإن ذلك ما كان رأي المعارضين من المحكمة والشيعة والمرجئة وبعض المعتزلة. لكن هذا الأمر صار تقليدا ظهر في العقيدة السنية فيما بعد في قولهم: الصلاة وراء كل إمام, والجهاد مع كل أمير. وهناك قول مشهور لأحمد بن حنبل(-241 ه/855م) بوجوب طاعة المتغلب إذا ساد في دار الإسلام, وقمع الفتنة, وجاهد العدو. وهكذا ومنذ زمن مبكر ما عاد تجاهل الشوري أو تجاهل إرادة الناس أو تجاهل من صاروا يعرفون بأهل الحل والعقد مبررا لاختلال الشرعية. ولذلك فقد قلت إن الاختلال في' شرعية المصالح' لا يخل بالشرعية التأسيسية في نظر الفقهاء, وإن بقيت هناك قلة تري إمكان الثورة علي المتغلب أو الظالم. ومع كل هذا فقد اختلف الفقيهان الشافعيان الكبيران الماوردي(-450 ه/1055م), والجويني(-478 ه/1085م) اختلافا شاسعا علي مسألتين حدثتا في عصرهما: الأولي ظهور السلطنات, ومدي إخلالها بوحدة الأمة, ووحدة السلطة. والثانية هل يمكن تصور خروج السلطة العليا من قريش؟ في الحقبة الحديثة ظهرت في المجتمعات العربية مئات الجمعيات التي كانت لها ثلاثة أهداف معلنة: إحياء الوعي الديني أو تجديده, والأعمال الخيرية والاجتماعية, والأعمال التربوية في مجال الهوية الموجهة للأطفال والفتيان. وقد افتتح هذا النوع من الجمعيات الشيخ محمد عبده في' الجمعية الخيرية الإسلامية'. بيد أن الجمعيات الأخري كانت مهتمة أكثر بالوعي الديني بالتحديد; ومن ذلك الجمعية الشرعية, وجمعية إحياء الكتاب والسنة, وجمعية الشبان المسلمين, وجمعية الإخوان المسلمين. وقد أفاد حسن البنا في حركته أو جمعيته من أربعة أمور: وعيه الحاد بحركات الإحياء الديني, حركات الجهاد والهجرة وآخرها الحركة السنوسية التي كانت ما تزال تقاتل الطليان بليبيا, واعتباره أن الباقي للشرعية الإسلامية وحسب الدولة السعودية الناشئة علي نهج الكتاب والسنة, والقدرة التنظيمية الهائلة, وعدم القطع مع سائر التيارات الوطنية الراديكالية التي يتشارك معها في الوعي القاطع ضد الاستعمار والتغريب, وإن لم تشاركه رأيه في تركز الشرعية أو انكماشها إلي حدود تنظيمه. ولذلك استظهرت أن التنظيم تقدم لدي الإخوان المسلمين بالذات علي اعتبارات العقيدة في السنوات العشر الأولي. ولذلك فقد عمد بعد اتساع التنظيم, إلي اجتراح' النظام الخاص'1938/.1939 وأعضاؤه المرتبطون به وحده هم خلاصة أو نخبة النخبة في التطابق بين التنظيم والعقيدة. ويبدو ذلك علي خير نحو في رسالة البنا للمؤتمر الخامس. فالأهداف هي: تكوين الفرد المسلم, ثم الأسرة المسلمة, ثم المجتمع المسلم, ثم الحكومة المسلمة, فالدولة, فالخلافة الإسلامية, فأستاذية العالم. ويتم ذلك علي ثلاث مراحل: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة, وإيصالها إلي الجماهير من طبقات الشعب, ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين, ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج. فماذا يعني هذا كله؟ إنه يعني أن أزمة الشرعية وصلت إلي أعمق الأعماق. ما عادت هناك دار إسلام, ولا عادت هناك زعامة إسلامية بزوال الخلافة. وما عادت المشكلة تنحل حتي بتنصيب خليفة أو زعيم في إحدي البقاع; بل لا بد من إعادة نشر الإسلام إذا صح التعبير بتربية أفراد عليه بعيدا عن أوضار ثقافة الاستعمار, ثم المضي قدما بالتنظيم الذي يصنع المجتمع المسلم فالدولة والخلافة. وعبر ستين أو سبعين عاما تولدت فيها تيارات وجماعات عديدة استطاعت الإسلامية الجديدة إجراء تحولات ضخمة في فهمنا للدين وعلائقه الاجتماعية والدولتية والعالمية. ومن خلال تلك التحويلات, صار الإسلاميون حاجة وأحيانا ضرورة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية بالمعاني الأخلاقي والاجتماعية والسياسية. وصحيح أن السلفيين يشاركون الإخوان اليوم في تمثيل أحد جناحي الإسلامية الجديدة هذه. لكن السلفيين انفجاريون ولا يملكون رؤية سياسية متماسكة ولا تنظيمات متماسكة. ولذلك يظل الإخوان متسلفين كما يسميهم الباحث الراحل حسام تمام- وغير متسلفين هم الفريق الأبرز في هذا الإسلام السياسي. ويذهب باحثون مثل أوليفييه روا وجيل كيبيل وسعد الدين ابراهيم إلي أن الإسلام السياسي هذا فشل, وهو في طريقه إلي الانقضاء. لكنني أري أن له مستقبلا في مجتمعاتنا إن لم يكن في سلطاتنا لعدة أسباب; أولها تأسسه علي فكرة أو عقيدة استعادة الشرعية التي حظيت بوزن مضاعف بسبب تضاؤل الشرعية الأخري, شرعية الدولة الوطنية العربية; وثانيها اكتسابه مشروعية شعبية بالفوز في الانتخابات بعد الثورات; وثالثها صلابة تنظيماته العقدية, رغم افتقاره إلي القيادات الكارزماتية; ورابعها وأهمها تمكنه من القيام بعمليات تحويل مفهومية في قلب الدين ارتبطت به وارتبط بها ويصعب إخراجه وإخراجها من يقين العامة وبعض الخاصة إلا في مديات متطاولة من نجاج الدولة والحكم الصالح. ..................................................................... هذه المقالة هي ملخص ورقة طويلة قدمها الكاتب لندوة( مستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي), والتي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية, بالإشتراك مع المعهد السويدي, ببيروت في الثلاثين من نوفمبر الماضي. لمزيد من مقالات د. رضوان السيد