كثيرا ما توصف الأمية بأنها' عار' علي أي مجتمع ما زال البعض من أفراده يحمل وصمتها. وحقيقة الأمر أن أن الأمية ليست مجرد صفة مجردة بل هي واقع تتمثل كارثيته في نتائجه وتوابعه. ففي القرن الحادي والعشرين وفي ظل عالم ومجتمعات المعرفة فالأمية في أي مجتمع هي المنبع المغذي للتخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي علي مستوي الفرد والأمة والدولة. إذن فالأمية هي أيضا قضية أمن قومي. إن الأمية هي ذلك' الحاجز' الذي يفصل وعي الفرد عن إدراكه لكينونته ومكانته كمواطن في دولته, وكواحد من سكان هذا العالم. فالأمي عاجز عن التواصل مع مجتمعه ثقافيا وفكريا. وهو في معظم الأحوال متقوقع داخل ذاته أو في جماعته من الأميين الذين تتأرجح ثقافاتهم بين التهويمات والخرافات, وهو ما يجعلها منبتة الصلة بالواقع والعلم والقدرة علي المشاركة في بناء وإثراء الحضارة الإنسانية. والأمي كذلك عاجز عن الحصول علي حقوق المواطنة والمشاركة الاجتماعية. وهناك دائما شكوك حول جدية مشاركته في الاستحقاقات الديموقراطية. فكيف يمكنه مثلا أن يدلي بصوته بالموافقة علي مشروع دستور لا يستطيع أن يقرأ نصه أو يتفهمه. ولعل هذا هو السبب في حرص بعض أنظمة الحكم علي الإبقاء علي الأمية بنسب عالية تضمن لها البقاء في الحكم لسنوات طويلة حيث يمكن الاستحواذ علي أصوات هؤلاء البسطاء بتكاليف زهيدة وطرق تتسم باللاإنسانية. والأمي بطبيعته عازف عن المشاركة لإحساسه بالدونية وعدم القدرة علي المواجهة والمطالبة بحقوقه. إذن فهو عامل معطل لتقدم المجتمع وازدهاره فكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا. فلا يمكن مقارنة مساهمة الأمي بغير الأمي أو المتعلم في جودة الأداء الوظيفي أو الإنتاج أو القدرة علي التطوير, فجميعها تتناسب طرديا مع معدل جودة التعليم, فما بالنا إذن بالأمية. وإذا كان الأمي عاجزا عن العناية بنفسه اجتماعيا وصحيا فإن هذا صحيح أيضا بالنسبة لأبنائه. فحيث تنتشر الأمية يزيد عدد أفراد الأسرة وتضيق مواردهم عن استكمال تعليمهم فيخرج أطفالهم للعمل ليزيدوا من أعداد الأميين. وبهذا تستكمل الحلقة الجهنمية للفقر والأمية دورتها بحيث يصعب الخروج منها لأجيال عديدة. وينطبق نفس الأمر علي صحة الفرد والأسرة, حيث لا يستطيع الأمي لجهله أو فقره أو كلاهما العناية بنفسه وأسرته صحيا في وقت تعجز فيه الدولة عن تقديم هذا النوع من الرعاية بصورة كافية, ليتحول الأمر إلي تعاسة كاملة للفرد والأسرة في حالة المرض وتصبح هما يثقل ضمير المجتمع. إذن فخطورة الأمية لا تتمركز في ذاتها فحسب وإنما في توابعها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية, والمؤثرة ليس فقط علي الفرد وأسرته وإنما علي المجتمع كله, بل وفي نهاية الأمر علي الدولة وقدراتها ومكانتها. ونجد هذا منعكسا في التقارير العالمية التي تبين العلاقة الوثيقة بين نسب الأمية وجودة التعليم من ناحية, ومكانة الدولة وترتيبها بين الدول الأخري في مجلات التنمية البشرية والتنافسية والتنمية المتواصلة من ناحية أخري. والسؤال في النهايةهل من حل؟ الحلول كثيرة, وهي معروفة للعاملين في مجال محو الأمية. والحلول تبدأ بضرورة وجود وعي وإرادة سياسية لاتخاذ القرار علي أعلي مستوي, ووجود خطة قومية تشارك فيها الحكومة المجتمع المدني من خلال مسؤولية مشتركة. ويشير العديد من التجارب الدولية والوطنية إلي أهمية جعل برامج محو الأمية والنهوض بالتعليم جزءا من الخطة الوطنية للتنمية البشرية, تنبثق من خطة شاملة للتنمية المستدامة. ولابد من ضرورة النظر إلي كون قضية الأمية' منظومة معقدة' تتكون من أجزاء عديدة متشابكة ومتفاعلة. ولذلك فأن حل مشاكلها لا يأتي إلا عن طريق حزمة من الحلول تأخذ في الاعتبار كل مكونات المنظومة ومدخلاتها من السياسات والخطط والبرامج والمشروعات والتمويل الكافي, والمشاركة الاجتماعية, وتأهيل المعلمين, والمناهج, وجعل برامج محو الأمية جزءا من التأهيل لحياة جديدة يكتسب فيها الدارس المهارات الحياتية اللازمة لتطوير مسار حياته وحياة أسرته ومجتمع. وهناك العديد من التوصيات المعروفة لكل المتخصصين والممارسين, وجميعها متكررة ومتداولة في المئات من الدراسات والندوات والمؤتمرات, ولكن ما من حركة الي الامام أو حتي ثبات في ذات الموقع المتخلف, بل أن الامر يزداد سوءا في مصربزيادة عدد الأميين( وخاصة الأميين وظيفيا), وهو ما يعني أن الحركة النسبية للأمة والدولة مقارنة بحركة دول العالم ما هي إلا إلي حركة للخلف. أما بعد: فمازالت الأمية في نظر المجتمع والباحثين والدارسين هي أمية الفرد. وما زال الجميع يبحثون عن الدوافع الداخلية أو الخارجية التي يمكن أن تحث الأمي علي محو أميته. ومازال الحديث عن ارتباط أمية الفرد بالفقر والجهل والمرض والتخلف والانعزال والقهر الاجتماعي. ولكن أحدا لا يريد أن يشير إلي المصدر الحقيقي لأمية الفرد, ألا وهو' أمية الدولة' المتمثل في عدم وعيها الكافي بحجم الخسائر الوطنية بسبب انتشار الأمية وضعف إرادتها تجاه حل المشكلة. إن الدولة بمكوناتها الشعبية وسلطاتها هي القادرة علي محو أمية أفرادها إذا ما قررت ذلك ووضعته موضع التنفيذ, وهو ما حدث في كثير من دول العالم ومازال. إن أمية الدولة- في رأيي- تسبق أمية الفرد, وقد تكون هي السبب في حدوثها. وقد تكون أمية الدولة عن' جهل' حقيقي أو' تقاعس' مقصود وكلاهما جريمة في حق الوطن والمواطنين. ولا يمكن لجهود محو أمية الأفراد في أي دولة أن تنجح إذا كانت الدولة نفسها تعاني من الأمية الوظيفية حين لا تعي وعيا كافيا بوظيفتها, أو الأمية الحضارية حيث لا تعي بالتطور الحضاري العالمي وبضرورة مشاركتها فيه. لنبدأ إذن بالبحث عن طريق لتعزيز الوعي الوظيفي والحضاري للدولة فهو البداية لطريق محو أمية الفرد الأبجدية فالوظيفية فالحضارية. إن حلم التقدم يجب ألا يضيع في جهود' تأثيم' أمية الفرد قبل' تجريم' أمية الدولة وهي مسئوليتنا جميعا. لمزيد من مقالات د. محسن توفيق