لم تكن فكرة التطور جديدة عندما أصدر دارون كتابه أصل الأنواع(1859 م), فقد تحدث هردر وشلنج وهيجل من قبله عن' فرض الارتقاء'. وكتب هربرت سبنسر عام1852 مقارنا بين أسلوب التفكير الساكن, وأسلوب التفكير الدينامي, مدافعا عن فلسفة التطور. كما قدم بوفون ولامارك اكتشافات مهمة علي طريق التطور, ولكن المؤكد أن داروين هو من أعطي للفكرة تلك الدفعة التي حددت معالمها النهائية, فبعد عام1859 م لم يعد الأمر يقتصر علي حضور فكرة التطور في علم البيولوجيا, بل إنها تغلغلت في الفكر الأوربي كله حتي أصبح من غير الممكن تناول أي سؤال من الأسئلة الوجودية الكبري بغير إشارة إليها. ورغم أن الصراع بين العلم واللاهوت كان بدأ فعليا قبل قرنين علي الأقل مع عالمي الفيزياء برونو ثم جاليليو, فإن نظرية التطور بصيغتها الداروينية فتحت جبهات جديدة لهذا الصراع, خصوصا بعد صدور كتاب دارون' تسلسل الإنسان' عام1871 م, والذي انتهي فيه إلي أن القوانين التي تحكم تطور الحيوان هي نفسها التي تحكم تطور الإنسان, وأن الفارق بينهما فارق في الدرجة لا النوع. وفيما بعد دارون تحولت نظرية التطور تدريجيا إلي( نزعة فلسفية), طرحت نفسها علي ميادين الفكر الإنساني: الإجتماعي, والتاريخي, والأخلاقي, والفلسفي, والسياسي. فعلي صعيد الفكر الإجتماعي تجلت في' الداروينية الاجتماعية' التي مالت إلي تغليب عنصر الصراع علي كيفيات تفاعل الأفراد داخل كل مجتمع, كما أبدت نوعا من التحيز لدور الحرب باعتبارها قانون الحياة بين المجتمعات المختلفة, فمثلما وشت الداروينية بإمكانية استيعاب المجتمع والإنسان معا في الطبيعة التي تتعرض لتغير مستمر, فقد أصبح الصراع لأجل البقاء هو قانون الحياة الإنسانية. وعلي صعيد الفكر التاريخي ربما أمكن القول بأن التطور أكمل ثورة التفكير في الطريقة التي يفكر بها المرء في تاريخ العالم وخصوصا تاريخ الإنسان والدين. بدأت هذه الثورة ب' النقد الرفيع' للكتاب المقدس, وعلمت الناس كيف يفكرون في الأديان كظواهر تاريخية' تطورية' حسب الزمان والمكان, فكتب أدولف هارناك المؤرخ الألماني للعقيدة المسيحية' لقد غدونا أكثر واقعية ومرونة, وأدركنا أن التاريخ كله واحد, وأن الدين وتاريخ الكنيسة مجرد جزء من التاريخ الكلي لأي حقبة, ولا يمكن فهمه إلا بالإضافة إلي الكل'. ولكن هذه الثورة تغذت علي الداروينية التي بدا كل شئ معها في تغير مستمر, إلي الدرجة التي كرست الشعور بنسبية الأشياء, وألقت ببذرة الخوف في قلب أولئك الذين تربوا في العالم التقليدي, وفهموا العالم كإطار للثبات, حيث الاطمئنان الروحي في سياق الدين والميتافيزيقيا. ولم توفر الداروينية الفكر الأخلاقي, إذ اشتبكت مع الوعي التقليدي, الذي اعتقد دوما أن القانون الأخلاقي مزود بخاصية الصمود ضد كل عوامل التغير, وأخذت تتصور الأخلاق باعتبارها نسبية وتقدمية, وأن غايتها هي الإسهام في الكفاح لأجل البقاء. وقد حاول علماء اجتماع بارزين مثل' هربرت سبنسر', و' لسلي ستيفن', وضع' علم للأخلاق' يستند إلي المبادئ الداروينية. وأما و.ك. كليفورد الفيلسوف وعالم الرياضة فحاول تأسيس أخلاق اجتماعية وليست دينية, ملاحظا أن أصول( الحق والباطل والضمير) ليست في الدين, ولكنها في التطور القبائلي, وأنها تطورت لأنها كانت مفيدة للقبيلة أو الجماعة في صراعها للبقاء ضد القبائل والجماعات الأخري. ولم تكن الداروينية منبته الصلة بالفلسفات والنظريات العرقية, فقد أعرب بعض الداروينيين مثل فرانسيس جالتون عن إيمانهم بفكرة التفاوت العرقي, وحاول مع آخرين إبراز الاختلاف البيولوجي بين الأفراد, مدافعا عن علم تحسين النسل كوسيلة للنهوض بالمجتمع. واستعمل آخرون, مثل أرثر دو جوبينو, فكرة الانتقاء الطبيعي لمؤازرة نوع ما من النزعة الأرستقراطية وذلك في كتابه' فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية' والذي كتبه في حياة دارون. كما أعلن عالم الاجتماع النمسوي لودفيج جومبلوفتش صراحة بأن الصراع الدائم بين الأجناس هو قانون التاريخ. ناهيك عن فلاسفة ألمان أكدوا علي تفوق الجنس الآري فخلقوا تدريجيا روح قومية متطرفة أفضت إلي النازية كنزعة عنصرية فجرت الفضاء الأوروبي كلة بحرب عالمية طاحنة. وأخيرا يمكن القول بأن الداروينية شجعت الفكر الإمبريالي الهادف إلي تبرير التوسع والسيطرة تحت لافتة السياسة الواقعية, والتي اعتبرت الحرب هي' قانون العالم الاجتماعي' خصوصا في القرن الممتد بين منتصف التاسع عشر, ومنتصف العشرين والذي تمكن خلاله الأوروبيين من استعمار معظم مناطق الشرق والجنوب. ورغم أن هربرت سبنسر كان قد تنبأ بأن الصراع, في نهاية الأمر, سوف يفقد فائدته الاجتماعية بعد أن تتطور المجتمعات وتنتقل من المرحلة التجارية إلي مرحلة' الصناعة' التي سيسودها السلام والتعاون, فإن الفكرة التي اعتبرت الصراع هو الفعل المحرك لحركة التاريخ, هي التي سادت في الأغلب الأعم. وبلا شك كانت هناك تيارات فكرية معارضة للداروينية حاولت أن تحرر تاريخنا البشري من هيمنة النزعة التطورية. فقد رفض فيلسوف التاريخ الألماني فيلهلم دلتاي محاولة إجبار الحقيقة التاريخية علي التكيف مع مناهج وأفكار العلوم الطبيعية. كما رفض الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ما اعتبره' الآلية الراديكالية' للمذهب الوضعي, والتي تزيد من إحكام قبضة الحتمية علي الموقف الإنساني, وترد الحياة إلي مقولات فيزيائية تضاد الحرية الإنسانية. ومع نهاية القرن التاسع عشر, أخذ المزاج العقلي والنفسي الأوروبي يميل إلي فكرة التدهور أو' الاضمحلال' النقيضة تماما للفكرة التطورية, والتي انحرف إليها الوعي الأوروبي, يأسا من حضارته التي تبدت لكثيرين علي مشارف الانحلال والأفول, ومن بينهم, كان ثمة أدباء مثل أوسكار وايلد, واشتراكيين إنسانيين مثل سوريل, وفوضويين مثل بول كلوديل, وعقلانيين لكن متحررين مثل أناتول فرانس, وعلماء اجتماع مثل إميل دوركهايم, وفلاسفة مثل رينوفييه. وقد نسب التدهور إلي الفساد البورجوازي وتداعي الإحساس بالمجتمع وفقدان القيم الدينية والروحية وازدياد سلطة الدولة والثقافة الجماهيرية, بل وإلي تقدم المعرفة. كما بدأ الحديث عن تدهور الطبيعة الإنسانية ذاتها في التاريخ, حيث جدد المؤرخ السويسري جاكوب بوركهارت الحديث عن جانب السقوط( الخطيئة) في الطبيعة البشرية, معتقدا أن هذا الجانب هو الذي أعاق التقدم البشري دائما, ورافضا للنزعة البروسية الداعية لمبادئ الدولة المطلقة, ولهيمنة الصناعة علي حركة المجتمع, فهذان العاملان في رأيه سوف يقضيان علي الحضارة الأوروبية بالموت لأنهما يقمعان الحرية الإنسانية. وأما نيتشه فنظر إلي التدهور كمرادف' للنقص العام في الحيوية البيولوجية' والذي يتفرع منه نوع من الفضيلة أسماه' أخلاقيات الراهبات المسيحية' التي دعت إلي الشفقة وحب الجار والخوف علي الذات والافتقار إلي الثقة بالنفس. وبدلا من تلك الأخلاقية الخائفة المنسحبة من التاريخ, دعا نيتشه إلي أخلاقية جديدة تناسب إنسان جديد هو السوبرمان' الإنسان الأعلي', القادر علي اقتحام الزمن بحيويته الفياضة, القادرة علي استعادة ماضي الحضارة الأوروبية الزاخر, سواء في صورته القريبة التي تتمثل لديه في عصر النهضة, أو البعيدة المتجذرة في الحضارة اليونانية والعنصر الجرماني. وأما الصيحة الكبري لمفكر غربي خوفا من التدهور, فجاءت من المؤرخ الألماني أوزوالد شبنجلر, الذي تنبئا بأفول الغرب في كتابه ذائع الصيت تحت العنوان نفسه. وفيه يرفض فكرة التقدم الخطي ويضع بديلا عنها نظرية الدورات( ذات الأصل الخلدوني), كما يميز بين الحضارة باعتبارها تعبير عن الروح الخلاقة والتلقائية المبدعة, وبين المدنية التي تعكس الحضارة ولكن في مرحلة الشيخوخة والإجهاد, حيث شدة التعقيد الذهني والروح الخاوية, والاتجاه نحو التوسع الخارجي أكثر من الاتجاه إلي الداخل, مؤكدا علي أن أوروبا قد تجاوزت مرحلة الحضارة, ودخلت في مرحلة المدنية. وأن مصير حضارتها إلي زوال كالحضارات السابقة( اليونانية والمصرية), وأن أي حديث عن إمكانية استمرارها وتقدمها, لا يعدو أن يكون استعادة ساذجة لأسطورة التقدم التي لا تعكس سوي نوع من' التفاؤل الدارويني التافه'. لمزيد من مقالات صلاح سالم