يبدو أنها الأقدار الإستراتيجية التي تحتم علي الأردن بسبب حساسية وضعيته الجيو سياسية أن يقدم دوما القرابين علي مذابح إعادة توجيه دفة سياساته الخارجية, بما تولده من صدامات متدرجة مع شرائح مجتمعية لها ثقلها المادي والمعنوي. فبعد أن ضحي بعلاقاته وتوازناته سواء التاريخية منها مع سوريا, أو الإقليمية الأكبر مع قوي مثل العراق وإيران, لصالح تيار المولاة الإقليمي علي وقع إغراءات خليجية كان يصعب مقاوماتها سياسيا واقتصاديا, بات عليه الآن التضحية أيضا بالقوي التي استفادت داخليا من حالة العداء السابقة. ففي الحالة الأولي كان التيار القومي داخليا بالإضافة لجزء من التيار الإسلامي ممثلا بالإخوان المسلمين القربان الذي ضحت بها الحكومة لإحكام عدائه مع سوريا. أما اليوم فإن جزء من التيار الديني وتحديدا السلفية الجهادية, القربان الجديد المطلوب التضحية به علي مذبح التقارب مع سوريا, لكونه من الصعب التفكير بالقربان الخليجي في تلك اللحظة التاريخية المعقدة. إذ يقبع داخل السجون الأردنية حاليا ما يزيد علي مائة سلفي بعضهم من القيادات, وأغلبهم تم القبض عليه مؤخرا. والمطلوب التضحية بهذا التيار السلفي, وإعادة الاعتبار للتيار القومي, مع استبعاد الإخوان من تلك المعادلة بسبب مشاركتهم بقوة بالحراك السياسي ضد الحكومة, وما شهدته علاقات الطرفين من توتر وصدام سياسي خلال الفترة الماضية. وبدت تلك التضحية في مسارين رئيسيين: تمثل المسار الأول, في إحكام الخناق السياسي علي نفوذ هذا التيار وقادته, وكبح الحرية التي وفرتها لهم الدولة الأردنية سواء علي الصعيد الداخلي, أو صعيد التعبئة السياسية والدينية لصالح التيار السلفي داخل المعارضة السورية المسلحة. إذ تعرض التيار السلفي من ناحية, لعمليات غير مسبوقة من التضييق السياسي طالت رموزه وصلت لمستوي الاعتقال الإداري, وتضييق الحيز الكبير الذي كان يتمتع به داخل المشهد الأردني بشقيه والسياسي والديني. ومن ناحية أخري بدأت السلطات الأمنية إجراءات غير مسبوقة لكبح عمليات انتقال الأموال والأردنيينلسوريا للقتال لجانب القوي السلفية متعددة الجنسيات داخل سوريا. فحسب المعطيات التي أعلنها القيادي البارز بالتيار السلفي محمد الشلبي' أبي سياف' فإن عدد الأردنيين الذين يقاتلون الآن بسوريا تحت ألوية القوي السلفية المقاتلة بلغ1000 مسلح. ويتوزع هؤلاء علي ثلاثة تنظيمات سلفية مسلحة: أحرار الشام; الدولة الإسلامية' دولة العراق والشام الإسلامية'; وجبهة النصرة لأهل الشام. ويعد التنظيم الأول, الأكثر احتضانا للمقاتلين الأردنيين لكون مفتي التنظيم الشيخ محمد أبو نجم أردني الجنسية, اعتقلته السلطات الأردنية منتصف هذا الشهر خلال عبوره مطار عمان قادما من ليبيا. ولذا فإن التحدي الذي أبدته تلك التنظيمات من خلال الاندماج التنظيمي تحت مظلة واحدة, واجهه الأردن بتحد أكبر تمثل في مراقبة أكثر صارمة للحدود المشتركة مع سوريا, ومسلسل إلقاء القبض علي العشرات من مؤيدي التيار السلفي الجهادي, أثناء محاولتهم التسلل عبر الحدود لداخل الأراضي السورية, بات يوميا, بالتزامن مع محاولات جادة لتجفيف منابع هذا التيار الدينية والمالية في آن واحد, من خلال الحد من التدفقات المالية التي كانت تمر عبر أرضيه من بلدان الخليج إليهم. أما المسار الثاني, فبدا من خلال تشجيع ودعم الحكومة للتيار القومي والشرائح الاجتماعية المؤيدة للتقارب مع سوريا, والتي هي بالأساس في حالة صراع عقائدي مع التيار السلفي. وكان لافتا سماح السلطات نهاية الشهر الماضي بسابقة الأولي من نوعها, لمؤيدي الرئيس السوري بشار الأسد تنظيم وقفة مساندة وتأييد أمام السفارة السورية غرب العاصمة عمان, دعت إليها اللجنة الشعبية لمساندة سوريا. تكمن مدلولات هذا التغيير بالموقف الرسمي الأردني في اثنين رئيسيين: أولهما: الاعتراف الرسمي باللجنة وأنشطتها المؤيدة لسوريا داخل الأردن. فاللجنة التي تشكلت في يوليه2011 وضمت شخصيات أردنية ذات توجهات بعثية وقومية لدعم نظام الأسد, لم تشاركها الحكومة وجهة نظرها التي عبرت عنها اللجنة في بيان الأول, من أن هدفها محاولة التصدي للمؤامرة التي تتعرض لها سوريا. وشارك بتلك الوقفة الاحتجاجية التي رفعت الإعلام السورية وحزب الله وصور الأسد لأول مرة في عمان, أكثر من50 شخصية سياسية وثقافية, واتهمت اللجنة في بيان أصدرته بعد الوقفة الاحتجاجية من يدعون لإسقاط النظام السوري بأنهم..' لا يمثلون مشروعا وطنيا أو قوميا, ولا يتمسكون بالاستقلال عن الإمبريالية, ولا يدعون لاحتضان المقاومة, ولا يرفضون التفاهم مع العدو الصهيوني. ثانيهما: توجيه رسالة عدائية تجاه التيار السلفي الجهادي الذي توعد أنصار اللجنة ومسيرتها بإسالة الدماء, حسب تهديدات أبو سياف, الذي قال صراحة..' إن السماح لهؤلاء برفع علم حزب اللات( يعني حزب الله اللبناني) أو النظام السوري الذي هدد بضرب الأردن ولا يستحي من تصريحاته ضد أهل السنة بسورياوالأردن والتغني بنظام بشار هو استهتار بمشاعر جميع المواطنين, سيؤدي لإسالة الدماء حيث أن دماء أبناء أهل معان والسلك وعمان وأربد والزرقاء. بل إن مضامين الكلمات التي ألقيت في تلك الوقفة الاحتجاجية, شكلت منعطفا لم يكن متصورا أن نراه بالأردن بتلك الحدة. حيث قال عيسي شتات, أحد أعضاء اللجنة..' سندوس علي أنوفكم أيها السلفيون أيها التكفيريون يا دعاة الإرهاب أنتم ومن يدعمكم من دول الخليج, ولن نخاف منكم ولا من تهديداتكم; لأن الجيش السوري سيقضي علي جماعاتكم في سوريا'. فيما ردد المشاركون هتافات ضد السلفيين ودول الخليج وأخري مؤيدة لبشار الأسد وللرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر, كما رفعوا صورا للأسد وعبدالناصر ولافتات مؤيدة للنظام والجيش السوري. يتزامن هذا التحول الأردني مع موقف دولي أكبر يعيد توجيه السياسة الدولية تجاه سوريا عبر مؤتمر جينيف الذي يرعاه الأمريكيون والروس.