كانت أم السعد تخرج كل يوم في الصباح الباكر تستقبل بوجهها النوبي الأسمر الجميل طل النهار الندي بابتساماتها المتفائلة التي لم تفارقها يوما وفي كلتا يديها أسبتة من الخوص تضع فيها رأس مالها وكل ماتملك: بعض الخضر الطازجة تشتريها كل يوم بعد صلاة الفجر من أحد الفلاحين بالمنطقة الزراعية التي تقطن بها والتي ظل الاستعمار الأسمنتي للمدن المطوقة لها يزحف عليها من كل جانب حتي أكل أطرافها وتوغل حثيثا نحو قلبها. ولم يكن هذا يعني شيئا لأم السعد.. لقد رأت فيه فرصة للرزق يسيرة.. حيث تبيع خضرها الريفية الطازجة في أسواق هذه المدن وأشباه المدن القريبة وتسير من أجل ذلك كل يوم قرابة الثلاثة كيلوات تقطعها ذهابا وإيابا سيرا علي الأقدام حتي توفر أجرة تاكسيات السرفيس التي تنقل المهنيين البسطاء والطلاب والفقراء أمثالها من سكان هذه المناطق الزراعية لأعمالهم ومعاهدهم بالمدن القريبة أو القاهرة والجيزة. وكنت أسألها عندما تعود آخر النهار بالأسبتة فارغة - كيف كان يومك ياأم السعد؟ تقول: - ربك جبرنا والحمد لله وجبنا لقمة عشانا. ثم تنادي أبناءها الذين عاصرت صباهم وشبابهم المبكر ليلتفوا حولها جميعا ويأكلوا معا مايأكله الفقراء وأشباه المعدمين, أسعد, أكبر الأولاد, وسامية, أكبر البنات, ثم يليهم ثلاثة آخرون ولدان وبنت هم فضل وحمد وخير, مات أبوهم بعد ميلاد خير بالبلهارسيا التي كانت قد تمكنت آثارها منه تماما حينما بدأ يقتنع بضرورة التوجه للوحدة الصحية للعلاج. ظلت أم السعد طوال السنوات الماضية, منذ وفاة زوجها وحتي رأيتها لأول مرة عندما جئت لأسكن في الغرفة المجاورة لهم فوق سطح إحدي العمارات القليلة بالمنطقة تقطع هذه المسافة كل يوم وتفعل نفس الشيء في صبر ورضا تحسد عليه. كانت أم السعد بشوشة دائما باسمة الثغر لا أذكر أني رأيتها يوما مقطبة أو حزينة حتي عندما كانت ترجع منهكة آخر النهار من عملها المرهق, كنت أري وجهها الصغير بملامحه الدقيقة وخطوط الزمن التي تعبره في جوانب كثيرة منه لاتفارقه البشاشة فما تكاد تراني حتي يفتر ثغرها عن ابتسامة عريضة لاتخلو من تعب وإرهاق تبرز معها سنتها الذهبية اللامعة في أقصي اليمين منه تزين صف أسنانها الأبيض الذي يزداد نصاعة مع سمار وجهها, ويبدو أنهم أطلقوا عليها لهذا السبب كنية أم السعد. كانت تعاملني كواحد من أبنائها وإن كنت أكبر منهم في السن وتدعوني للطعام كلما جلسوا ليتناولوا الطعام كعادتهم كل يوم, لكنني لم أكن ألبي دعوتها الرقيقة لأنني أعلم أن الطعام لايكاد يكفيهم وبما أنني فقير مثلهم ومن نفس طبقة أشباه المعدمين التي ينتمون إليها فقد كنت أعلم جيدا أن كل لقمة يدفع بها الفقير لجوفه لها عنده ألف حساب, لذلك كنت أعتذر دائما وأقضي أغلب الليالي أتضور جوعا. لكن أم السعد كانت تصر علي أن تبعث لي ابنها الأصغر أو ابنتها الصغري بكوب شاي كل ليلة بعد العشاء ومطلقا لم تنسني مرة واحدة عندما كانت تطبخ كل مدة طويلة أكلة الويكا النوبية أو عندما تطهو طعاما, أي طعام باللحم, نوبيا كان أو غير نوبي, تصر علي أن أتناول منه طبقا معهم, وكانت كل محاولاتي للاعتذار لاتفلح عندها أبدا وكانت كما أفصحت لي فيما بعد تدخر كل يوم مبلغا قليلا علي فترة طويلة حتي إذا تجمع منه مايكفي أن تشتري به لحما أنعمت بهذا الفضل علي أسرتها ونفسها وتذكرتني معهم كواحد منهم وكانت أم السعد سعيدة بهذا النظام كل السعادة راضية بحياتها هذه كل الرضا. وكنت أتعجب من رضاها والذي كانت لاتعبر عنه بكلام كثير, بعض تمتمات لاأكثر, لكن أحدا لايخطئ أثر الرضا والسعادة علي ملامح وجهها الأسمر الجميل وهي تستقبل صباحها الندي بابتسامتها الصبوحة و حين تعود مرهقة في المساء ولا تفارقها ذات الابتسامة.. أزعم أنني كنت أري في جنبات وجهها أو حوله شيئا كالنور, وكانت تستقبل إطرائي عليها أحيانا ببعض كلمات المجاملة الخفيفة بابتسامة راضية شاكرة تفصح عن أن صاحبتها أبسط من أن تغتر بكلماتي وأحكم من أن تصدقها. نعم الجارة أنت ياأم السعد.. ونعم الأم. لم أمنع نفسي من أن أسألها يوما عن سر رضائها هذا وسعادتها المستمرة وهي مثلي تقريبا من أفقر خلق الله كما يقولون, نأكل وجبة ونجوع أخري, فقالت لي وهي تقلب كوب الشاي بملعقة صغيرة: - نحمد ربنا علي الصحة والستر. فقلت لها: - طب ولو كنت- ألف بعد الشر عليكي ياأم السعد- صاحبة مرض؟ فقالت: - ربك مابينساش حد, واللي مالوش حظ في الدنيا له حظ في الآخرة.. خلي توكالك علي الله. كنت أشعر أن أم السعد لاتفكر بعقلها ولاتري الأمور بعينها.. كانت تفكر بقلبها وتري الأمور بإحساسها, ثمة بوصلة داخلية توجهها, كنت أشعر أنها جسد تحركه ذات غير ذاته ونفس غير نفسه.. ذات نورانية لاتشغلها مطالب الجسد ولاتتحدث معه لغة الأحباء المادية الملموسة ولكنها تتحدث معه لغة الأرواح الإيحائية المبهمة, وكان جسدها الضئيل النحيف يستسلم علي مايبدو لهذه الذات النورانية كل الاستسلام. وذات يوم عادت أم السعد مبكرة عن موعدها وكان يكسو وجهها الهادئ المطمئن فيض وديع من السعادة تجلي في ابتسامتها العذبة حين قابلتني وهي تحمل في يدها حقيبة أنيقة من البلاستيك مطبوعا عليها اسم ماركة أجنبية معروفة لإحدي المنتجات فتعجبت من ذلك وسألتها عما اذا كانت غيرت الأسبتة الخوص بالحقائب البلاستيك في نقل بضاعتها فأجابت بالنفي وهي تبتسم في مكر ساذج أراه عليها لأول مرة, حتي مكرها جاء حلوا مثلها. جاء مكرا طفوليا عذبا رقيقا, ولم تخبرني بشيء ولم تمهلني كي أسألها لماذا عادت اليوم مبكرة وإنصرفت عني عاجلة لغرفتها ولأولادها كمن يحمل بشارة ويحرص علي تبليغها بسرعة. ولم أشأ أن أثقل عليها بالأسئلة حين قابلتها مصادفة في مساء ذلك اليوم وأنا أتوجه لدورة المياه المشتركة القابعة في ركن السطح, وكنت أشعر بثمة إحباط خفيف من أم السعد. فقد كنت أعتقد أنها تعتبرني واحدا من أبنائها وأنها في أي يوم لن تخفي عني شيئا, لكنني سرعان ماغفرت لها هذا, فأنا فقير كأم السعد وأعرف ذلك الشعور جيدا حين تأتي للفقير فرصة أو نعمة يعتقد أن فيها ملاذا له ومخرجا مما يعانيه ولو استطاع الفقير منا أن يخفي ماأصابه من نعمة حتي علي نفسه كي لاتحسد فتزول, لما تأخر أو تواني في ذلك. *** لم يكد الليل يدخل علينا ويكسو منطقتنا النائية بقطيفته السوداء ويلفها في سكونه المطبق حتي وجدت أم السعد تخرج إلي من غرفتها وكنت أجلس كعادتي علي الدكة الخشبية المستطيلة بجوار السور فوق وساداتها القطنية الرطبة بالقرب من مصباح أعلقه علي الحائط المجاور لغرفتي مستغرقا في كتبي ومذكراتي. قلت لأم السعد مازحا: - إيه حكايتك النهارده ياأم السعد كل مواعيدك ملخبطة.. ترجعي بدري من السوق وتصحي بعد العشاء تقعدي معايا علي السطح.. ايه الموضوع؟ فابتسمت ابتسامة خجلي أدركت معها أنها لم تستطع أن تنم دون أن تخبرني بالذي استجد في حياتها, أدركت ذلك فعمدت أن أكون ودودا معها بالقدر الذي لايشعرها بأنها خذلتني في عشمي فيها مجال. سألتني أم السعد عما إذا كنت قد تناولت عشائي فأجبتها بالإيجاب والحمد لله فأردفت تسألني لأول مرة منذ عرفتها عن دراستي فقلت لها انني طالب بكلية الآداب قسم فلسفة ولم تكن أم السعد قد سمعت كلمة فلسفة في حياتها مطلقا قبل ذلك فقطبت جبينها مستنكرة غرابة الاسم وقالت لي: - يعني إن شاء الله تطلع كده دكتور ولا مهندس ولامستوظف حكومة؟ فقلت لها: - لادكتور ولامهندس ولامستوظف حكومة بالمعني المعروف.. إنني ياأم السعد أدرس الفلسفة وهي أهم شيء في الوجود بالنسبة للإنسان أو المفروض تكون أهم شيء بالنسبة لكل إنسان. فقالت كمن تريد أن تضع يدها علي شيء تعرفه: - يعني بتدرسوا إيه في الفلسفة ديه.. يعني؟ تبسمت وأنا أصحح لها الكلمة وقلت لها: - إننا ندرس في الفلسفة أفكار الفلاسفة حول أصل الوجود, يعني الدنيا, وعلاقة الإنسان بالله والإنسان بالإنسان وهكذا.. واعتقدت أن المسألة انتهت عند هذا الحد لكن أم السعد فاجأتني بقولها: - وهي الحاجات ديه عايزة جامعة.. ربنا هو اللي خلق الدنيا والإنسان يتقي الله ويعاشر الناس بالمعروف.. المعروف يابني مافيش أحسن منه.. طب أنا بقالي هنا ييجي عمر.. شوف من قبل ماعمك الحاج, العمر الطويل لك, يموت بسنين ياما.. والحمد لله كل الناس حبايبي.. زي ماأنت شايف.. ربنا بس يختمها علي خير وجيعل أيامنا خفيفة علينا ويجعلنا خفاف علي الناس ومايحوجنا لحد ومايتقل لنا جتة. كانت هذه هي أول مرة تتكلم أم السعد, وهي لاتدري, عن فلسفتها في الحياة بهذا الشكل, وأول مرة تهتم بأن تري ماحولها رؤية مستفسر يريد أن يعرف, وأول مرة تنشغل بشيء آخر سوي لقمة عيشها كما تسمي عملها دائما.. أدركت عندئذ أن أم السعد قد وجدت سبيلا للرزق ميسرا فارتاح بالها وبدأت تري الدنيا من حولها وتري قبل الدنيا نفسها وتتحدث عن كليهما. ولم تجعلني أم السعد أنتظر طويلا فسرعان مابدأت تسرد لي الوقائع الجديدة علي حياتها كمن تريد أن تنقي ضميرها إزائي فقالت لي إنها قابلت بالصدفة هذا الصباح شابة ثرية جميلة تقطن مع أسرتها في عزبتهم القريبة منا. توقفت الفتاة لاصطحاب أم السعد معها وقد رأت ماتحمله فوق رأسها وفي يديها.. ويبدو أن السيارة الفارهة كانت أيضا مكيفة لأن أم السعد قالت: إن الدنيا داخل السيارة برد مثل ثلاجة خليل البقال بتاع الحاجة الصاقعة. وليس هذا فقط بل قصت أم السعد أن الشابة الصغيرة تمتلك محلات كبيرة تبيع كل شيء في الدنيا واللي يخطر علي بالك حتي الخضر الطازجة. فاستنتجت أنها سلسلة ضخمة من السوبر ماركت, وأن هذه المليونيرة الصغيرة عرضت علي أم السعد أن تشتري منها خضارها كل يوم وما علي أم السعد إلا أن تجلس تراقب عملية البيع والشراء حتي تنفد الخضر.. فهي بذلك تضفي لونا فلكلوريا محببا في المحلات الأنيقة الزاخرة بالبضائع المستوردة, وتعطيها علاوة علي ثمن الخضراوات عشرين جنيها في يدها, أي صافي ربح بلغة الاقتصاد. ولاأعتقد أن أم السعد ستحلم يوما بما هو أكثر من ذلك وكنت في الأيام التالية كلما سألتها عن أحوالها يبدو عليها السرور الزائد وهي تقولالحمد لله..مستورة أوي أوي وتقبل ظهر يدها اليمني وراحتها فكنت أسر لذلك كثيرا وبعد أسبوعين تقريبا.. خرجت علي أم السعد ذات ليلة كما خرجت في ذلك اليوم الذي قصت علي فيه قصتها مع الشابة الثرية.. وجلست أمامي وأنا أتربع علي دكتي الخشبية كالسلطان العثماني أقرأ كتابا في تاريخ الفلسفة فأدركت أن ثمة تطورا قد حصل في الأمور.. هذه المرة لم تكن أم السعد باسمة بقدر ماكانت في حالة ما بين الهم والحيرة.. فبادرتها سائلا لكي أعفيها من البحث عن بداية مناسبة للحديث: - ماأخبارك وماأخبار صاحبة الشغل؟ فقالت كمن تنتظر سؤالي: - نحمده, ثم صمتت قليلا وعادت تقول: - بس هي عصبية شويتين وساعات تعاملني زي ماأكون خدامة عندها ولامؤاخذة.. مع إني بأعاملها زي بنتي بالضبط وربنا يعلم. كم هي حرة نفسك ياأم السعد, إنك لاتعلمين مذلة العيش وتحكم أصحاب الأموال وغطرسة الأثرياء.. لعلك لم تقابلي أحدا منهم في حياتك سوي هذه الفتاة الصغيرة التي تعتقدين أنك صرت أما لها.. لكنني أعرف ماذا ألم بك ياأم السعد. هكذا خاطبت نفسي. أما ماقلته لها فكان غير ذلك.. قلت لها: - معلش ياأم السعد استحمليها يمكن كان عندها مشكلة ولاحاجة.. الصبر طيب وبرضه ديه فرصة حلوة ومريحاكي.. وإنت ياأم السعد محتاجة لفلوسها.. ده إنت عندك ماشاء الله ثلاثة جدعان وعروستان.. أطرقت قليلا ثم هزت رأسها بهدوء مؤيدة كلامي وقالت: - كل اللي يريده ربنا خير- الحمد لله.. تصبح علي خير. وعندما رأيتها في الصباح الباكر تنزل درجات السلم كانت متثاقلة كالمهمومة.. لم أرها أبدا بهذه الحالة من قبل.. حتي عندما نظرت لوجهها لم أجد فيه هذه الابتسامة التي لم تفارقه قط من قبل. وجاء المساء وكنت قد تأخرت قليلا عند أحد أصدقائي الذي يسكن مع أسرته في إحدي المناطق العشوائية في إحدي أشباه المدن المنتشرة حولنا كنت مرهقا نفسيا إلي أبعد درجة, فقد كان صديقي هذا بجانب دراسته للفلسفة يعمل مجرما مع أبيه وإخوته وأعمامه وأخواله حيث هو وأسرته جميعا يمارسون الإجرام بجانب أعمالهم الأصلية التي تمثلت ضرورتها في أنها تكسبهم هيئة اجتماعية هم في حاجة إليها, سواء أكانوا طلابا أم حرفيين أم موظفين, وكان من الواضح أنهم يعيشون في بحبوحة من العيش.. ويناصرون بعضهم بعضا في تماسك عجيب, لكن هذا لم يكن يمنع حدوث اختلافات أحيانا تنتهي عادة بمجازر جسدية فورية. البقية الأسبوع القادم