أول ما يذكر اسم فيلسوف فرنسا الأشهر فولتير(1694-1778), تقفز فورا إلي الأذهان مبادئ عصر التنوير التي دعت إلي الحريات المدنية وحرية العقيدة والتسامح وقيم المواطنة والعدالة وقبول الآخر. وتقفز كذلك شعارات الثورة الفرنسية- التي توفي فولتير قبل اندلاعها بأحد عشر عاما واعتبره المؤرخون أحد ملهميها- وتقفز أعماله التاريخية الخالدة, وكتاباته الفلسفية والفكرية العميقة والمتنوعة, لكن ربما لا ينتبه أحد إلي أن فولتير كان أيضا أديبا رائعا وشاعرا متدفقا أنتج أدبا رقراقا وشعرا راقيا, وكان أدبه يجمع بين الطرافة في الموضوعات والخفة في الأسلوب والعمق الفكري, ويحمل من القيم والأفكار ما يضعه في مصاف الآداب الرفيعة. وكان فولتير- واسمه الحقيقي فرانسوا ماري أرويه- الذي تلقي تعليمه علي يد الرهبان اليسوعيين, قد نبغ مبكرا, ومع مرور السنوات, ظهر جليا للأعين أنه يستطيع بمهارة وحذق الجمع بين عدة فروع من العلم لدراستها والكتابة عنها في آن واحد, وبرهنت عناوين كتبه علي هذا التنوع النادر, منها علي سبيل المثال:' عناصر الفلسفة عند نيوتن',' قرن لويس الرابع عشر',' مبحث في الأخلاقيات', هذا بالإضافة إلي المسرحيات التراجيدية والشعرية والأعمال القصصية والروائية. نذكر ذلك وأكثر عن فولتير العظيم المدفون في مقبرة عظماء فرنسا' البانتيون', لكننا نخص بالذكر في هذا المقال بعض أعماله الأدبية القصصية والروائية, البديعة في سردها, الخلابة في أسلوبها, العميقة فيما تعرضه من قيم وأفكار. وعلي سبيل المثال تعد أعماله الأدبية' كانديد' و'ميكروميجاس' و'زاديج' من أمتع ما يمكن قراءته لمحبي قراءة الأدب من جميع المستويات, واضعين في الاعتبار أن هذه الأعمال كتبت في القرن الثامن عشر, أي منذ ثلاثمائة عام, وهنا تكمن عبقريتها. وتلفت' كانديد' النظر من عنوانها, فهي أولا تحمل عنوانا مزدوجا:' كانديد أو التفاؤل', وثانيا' كانديد' هو اسم بطل الرواية المستوحي من الكلمة اللاتينية' كانديدوس' التي تعني اللون الأبيض, في إشارة إلي طيبة حامل هذا الاسم وحسن نيته إلي درجة السذاجة. لكن, ورغم طيبة' كانديد' وسذاجته, إلا أنه مر في هذه القصة الطويلة بظروف أجبرته علي مواجهات قاسية ووضعته تحت ضغوط كبيرة حتي استطاع أن يلم شمله مع حبيبته, وفي نهاية القصة يتجسد هدف الكاتب منها في جملة موجهة من أحد أبطالها إلي بطلها الرئيسي' كانديد' توضح له إنه لو لم يمر بكل المحن والظروف القاسية والمتشابكة التي مر بها, لما استطاع أن يصل إلي هذه اللحظة السعيدة التي وصل إليها الآن بلم شمله مع من يحب. ويبدو من العنوان الثاني الذي تحمله القصة' التفاؤل' أنها تدعو الإنسان إلي التفاؤل الدائم مهما ساءت ظروفه ومهما بلغت معاناته. وتتميز' كانديد أو التفاؤل' بأسلوب رشيق وشيق, وهي تثير فضول وخيال القارئ من اللحظة الأولي لقراءتها, فهو يسيح مع بطلها في رحلاته ومغامراته كما يعيش معه مآسيه لحظة بلحظة. ولا تقل' ميكروميجاس' روعة عن سابقتها, بل تفوقها روعة لأنها- كما صنفها بعض النقاد- إحدي بواكير أدب الخيال العلمي, فبطل هذه القصة الطويلة المدعو' ميكروميجاس' هو أحد سكان الفضاء, وهو بالمفهوم البشري عملاق يبلغ طوله تسعة وثلاثين كيلومترا!! يحكم عليه كهنة كوكبه بالنفي فيخرج باحثا عن السكني في كوكب آخر, ثم يقابل كائنا آخر يتخذه صديقا رغم كونه قزما بالنسبة له, فطوله لم يكن يتخطي اثنين كيلومتر!! ويترافق الصديقان الجديدان ويختاران الهبوط إلي كوكب الأرض اللذين اعتقدا في البداية أنه خال من السكان, فصغر حجمهم جعلهم غير مرئيين علي الإطلاق بالنسبة للعملاق وقزمه! حتي انفرط عقد كان يحيط برقبة' ميكروميجاس' وتدافعت حباته الضخمة أرضا, وهنا فقط عرف الكائنان أن هناك من يسكنون علي متن هذا الكوكب, لكنهم كائنات بالغة الضآلة! وحدث أن تبادل' ميكروميجاس' الحديث مع بعض العلماء من هذا الكوكب بعد أن رفعهم علي كفه ليستطيع سماع أصواتهم ورؤيتهم! واندهش من براعتهم وعلومهم وتفتح عقولهم, ودارت حوارات عدة عبر الرواية حول هذه النسبية المدهشة ولانهائية المعرفة, وفي النهاية, اختار الكائنان الفضائيان أن يغادرا كوكب الأرض بعد أن يتركا فيه كتابا لم يستطع أهل الأرض فهمه ولا قراءته. ومغزي القصة هنا يركز علي ضرورة أن يكون الإنسان أكثر تواضعا, فهو ضئيل للغاية والكون شاسع هائل, وهو بضآلته هذه لن يستطيع فتح مغاليق كل الأسرار المحيطة به, كما تؤكد القصة علي أن البحث عن الحقيقة أمر أبدي في حياة البشر. أما الرواية أيضا ذات العنوان المزدوج' زاديج أو القدر' فهي إبداع ثالث. و'زاديج'- الذي هو أيضا اسم بطل الرواية- مأخوذ مباشرة من الاسم العربي' صادق', فبطل الرواية الذي يتميز بصدقه وحسن خلقه وتمسكه بالفضيلة يقع في مآزق لا نهاية لها, وفي متاعب لا أول لها ولا آخر, ويتعرض للظلم باتهامه بجريمة لم يرتكبها, حتي يقول القدر كلمته وتتم تبرئته, بل ويرتفع شأنه ليصبح الوزير الأول لملك بابل, إلا أنه يضطر مجددا للهروب من بابل بعد وقوعه في غرام زوجة الملك, التي ينجح في أن يتزوجها في النهاية ويتوج ملكا علي بابل بعد صعوبات جمة, وتمثل الرواية إسقاطا يحمل في طياته نقدا لاذعا للمجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر. لم يكن هذا التطواف السريع أكثر من عينة متواضعة من أدب فولتير القصصي والروائي الرفيع, ونستطيع أن نفرد مجلدا لنتحدث عن إبداعاته الأدبية كاملة لنحلل متونها ومضامينها تحليلا أدبيا ونقديا وفلسفيا يليق بكاتبها العظيم الخالد أبد الدهر في الوجدان الإنساني. لمزيد من مقالات د.شيماء الشريف