نحسب أن الامة الإسلامية بمنظومتها العقدية وشريعتها المتجددة لديها من المخزون الفكري والحضاري المشتمل علي المقاصد والوسائل ما يؤهلها لايمان راسخ يقودها إلي العمل الصالح في الحياة. ولعل ذلك المخزون المعرفي في الفكر الأشعري بأطروحاته العقائدية وثوابته الايمانية يقدم خطة رشد, ومعلم نهضة علي الطريق الفكري والحضاري الذي يؤصل العلاقة الصحيحة بين الله تعالي والعباد ويوازن بين المكونات الروحية والمادية للإنسان بما يتسق مع فطرته فيعيش بهذه العقيدة المتغلغلة في كيانه التي تملك عليه نفسه وتوجه مسار حياته, وتسلك به الآفاق الرحبة التي رسمها أقطاب هذه المدرسة, ليكتشف الأصول الخصبة والثرية للهوية الإسلامية, فهي معلم علي طريق الاحياء المتجدد لأصول المنظومة العقدية المتسقة مع الفطرة البشرية, القادرة علي التفاعل مع متغيرات الزمان والمكان. إن المدرسة الأشعرية بأنموذجها الفكري الذي يعتصم بالأصول الشرعية القطعية التي اشتمل عليها القرآن والسنة ومرويات الصحابة والتابعين وأئمة الحديث تقدم بناء معرفيا وحضاريا يتأسس علي المصادر الإلهية والعقلية التي صاغت مدرسة رائدة في علم الكلام, ترجمت أصول الإسلام في حقائق وموازين ضابطه للرؤي والأنظار. لقد انتصر الفكر الأشعري في جوهره الرائق لمعلم رئيس عند أهل القبلة, وهو التأسيس لنظر النقل والعقل في المنظومة الإسلامية, بحسبان أن كليهما منبع التفكير الراشد, وأداة الاستنباط السديد, العاصم من الخطأ الدائر في نطاق المشروعية, معتمدا في تشييده علي أن صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول, بل هما قرينان لا يفترقان كل منهما يكمل الآخر ويرتبط به لكي يثري الفكر والحياة ويؤسس للعطاء الديني والمجتمعي حتي يجعل منهما سبيل قوة ومصدر عزه. ولا يخطئ المطلع علي فكر الأشاعرة من وجود العقل جنبا إلي جنب النص في البنية الأساسية للأصول التي اعتمد عليها والحرص علي استنهاض ملكته الوثابة واستنفار قواه الاجتهادية واستدعائه لحكمة النص وتفعيل الأصول, والكشف عن المقاصد والأسرار التي اشتمل عليها هذا الدين الخاتم المشتمل علي أصول الأديان كافة. وما كان ذلك التبصر في التأسيس الاشعري للفكر والاجتهاد والنظر والاستيعاب الا إدراكا عن وعي وبصيرة بالمنظومة العقدية للإسلام وترشيدا لمسيرة الحياة, وتكريما للإنسان وحفاظا علي مقوماته المادية والمعنوية فتتوازن نفسه ويستقيم مسلكه مع الناس في ادائه لواجب الخلافة عن الله تعالي في هذا الكون بما يحقق اعماره والنهوض به, لينطلق علي درب السعادة والكد لا يفتر عن العبادة والسعي الدءوب لطلب الرزق واحراز التقدم في إطار متطلبات العقيدة بعقل يقظ يتبصر إرادة وحكمة الله في الكون, وهي المهمة التي لا يقدر عليها إلا العقل:' وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون'. وقد أقام الفكر الأشعري, مدرسته اعتمادا علي المنهج الوسطي المؤسس علي آيات وأحاديث بينات ترسي أساس التوفيق بين أصول الإسلام والطبيعة الإنسانية والمعطيات الحياتيه فهو يشمل النقل والعقل, والثبات والتطور والروح والمادة, والشريعة والواقع, بحيث لا يقيم خصومة بينها وإنما يرسي التوافق والتكامل وهو منهج يكفل الحفاظ علي الأسس المؤصلة لمصادر والشرع, والمواكبة الراشدة لمتغيرات العصور. ويمضي هذا الفكر في بناء أسسه العقدية بما يعمل علي غرس العقيدة الصحيحة في النفوس ويبني جسور الثقة بين العقائد وفي مجمل العلاقات القائمة بين الله والإنسان وبين المسلم وأخيه المسلم ويمتد ذلك إلي علاقة المسلم بغير المسلم, فما كان هذا النهج الأشعري السالك للوسطية, إلا وقوفا علي جوهر دين الإسلام في إرساء المقومات المكينة لمعالم الأديان السماوية وحفظ الأصول الجامعة لها, في الدين الإسلامي, ليكون الدين واحدا, والشرائع مختلفة وهي دعوة مخلصة للوفاق, والالتقاء علي كلمة سواء بين بني البشر في ظل نظام كوني يبني ويحافظ علي السلام العالمي, وهو مايتطلب التوافق والتضافر بين قادة الأديان والسياسة, وهو مطلب تمس الحاجة إليه في هذا الزمان لإنقاذ العالم من الصراعات والحروب من أجل الغلب والسيطرة وإرساء السلام العالمي, وبجانب ذلك فإن الفكر الاشعري يستلهم المقاربه والسداد بين المؤمنين أفرادا كانوا أم جماعات اقتداء بحديث:' سددوا وقاربوا ولينوا في أيدي أخوانكم' وذلك بهدف أن يحفظ علي المؤمنين دينهم وهم في خضم خلافاتهم وصراعاتهم الفكرية والمذهبية وصولا إلي رأب الصدع وإنهاء الفرقة والطائفية التي تموج بها الساحة الإسلامية باسم الدين وتفشي ذلك بين مذاهب شتي: حتي أسفرت عن خلافات دموية تكرس التخلف, وتمكن لتقسيم الأمة وتفتيت قواها وتحقيق أهداف عدوها عكس ما جاء به نص قوله تعالي:' فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم'. وربما كان الملحظ الفارق في البناء العقدي لهذا الفكر يتجلي في الدفاع عن إيمان المؤمن إلي أقصي درجة, ورفض تكفير المسلم, فدائما ما تكون الغلبة للايمان, وسط متاهات الشكوك; ذلك أن المسلم إذا نطق بقول أو قام بعمل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها والإيمان من وجه واحد حمل حاله علي الإيمان, فخلاف المذاهب وتخبطها في الفهم وتجاوزها الحدود لا يصمها بالكفر ولا يوصف المسلم الذي نطق بما يشبه الكفر بأنه كافر أو مرتد, إذ لا يجوز أن يقلب إيمان المؤمن إلي كفر, وأن يجعل الدين مطية إلي بلوغ أهداف خاصة وهي آفة كثير من مذاهب المسلمين في هذا الزمان. ومهما كان الخلاف بين المذاهب المتأسلمة فإن الفكر الأشعري يقاوم خلع ربقة الإسلام عن هذا المسلم أو ذاك, فهو يجعل الاختلاف سنة كونية, وطبعة تنافسية, فكما يقول الاشعري فقد اختلف الناس بعد نبيهم( ص) في أشياء كثيرة, ضلل بعضهم بعضا, وبرئ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين, وأحزابا مشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم', فهذه رسالة للمختلفين, ليثوبوا إلي رشدهم ويصححوا عقيدتهم, لا ستعادة الدين في صفائه ونقائه لإحياء الجامعة الإسلامية, والنهوض بعالم المسلمين. ويمضي هذا المذهب في تقرير اعمدته العقدية في رفضه للغلو والشطط بحسبانه يورد المسلم مورد التهلكة ويجعل الدين مثالا علي العصبية والتطرف ورفض الآخر وذلك عند بيانه المقصود من بعض النصوص الشرعية الايمانية التي قد يوهم ظاهرها, خلاف المراد منها الأمر الذي حدا بالمذهب إلي استكناه الحقيقه بما يليق بجلال الله وتنزهه عن مثليته بالبشر لذلك أعتنق المذهب التأويل والتفويض في التعامل مع هذه النصوص. لمزيد من مقالات د.محمد الشحات الجندى