لقد قر في أذهاننا منذ محاولات الصحوة الجديدة في مواجهة التقدم الغربي أن هذا التقدم التقني والاقتصادي الرأسمالي لا يمكن اللحاق به لا علي مستوي الدول ولا علي مستوي الأفراد والمؤسسات الخاصة. وبالطبع فإن قياس التقدم من المنظور المادي البحت هو سبب الإقرار بالتخلف العربي علي اعتبار أن الفجوة كبيرة بين متوسط دخل الفرد في البلاد المسماة بالمتقدمة ودخله في البلاد المسماة متخلفة أو باصطلاح مهذب النامية. والأمر في اعتقادي ليس علي هذا النحو, فليست التنمية والتقدم بالمعيار المادي الغربي هي المقياس الوحيد للتقدم, وليست المسألة مقصورة علي ازدياد الأغني غنا, وازدياد الفقير فقرا, وليست عموما بالمال الذي يملكه هذا أو ذاك من البشر أو من الدول. وعلينا أن نتوقف لتأمل هاتين الملاحظتين لنستنتج منهما المعني الحقيقي للتنمية والتقدم ومن من الأمم الأرقي والأفضل!! الملاحظة الأولي تبدو في هذا الأسي والألم الذي نشعر به جميعا حينما نشاهد مناظر أولئك الأفارقة الجوعي سواء كانوا عربا أو لم يكونوا, وأجسادهم يبدو منها العظم وهنا وضعفا دلالة علي الفقر المدقع وعدم وجود القوت الضروري لهؤلاء الناس! وكم نصيح عندئذ قائلين: ألا يستحق هؤلاء العون حتي نحميهم من هذا الجوع وهذا العطش وكم ننبهر بهذا الإنسان الغربي الرقيق الذي أتي بمؤسساته الدولية مثل الهلال الأحمر والصليب الأحمر ووكالات الغوث الأخري فيشملهم برعايته ويكسب ودهم بمعوناته! إنها حقيقة مغالطة كبري حينما نظل علي هذه المشاعر المتضاربة إزاء كل ذلك, فالحقيقة أن وراء كل هذه المظاهر المتناقضة التي نراها في أدغال الصومال وموزمبيق والسودان وأنجولا وغيرها, وراءها الإنسان الغربي ذاته, فهو الذي استعمر هذه البلاد ونهب ثرواتها وعمد إلي تفتيت وحدتها وإزكاء الصراعات بين قبائلها وزعمائها. ولم يتركها إلا بعد أن ربط اقتصادها باقتصاده ولم يزرع فيها أبدا أي إمكانية للتنمية الذاتية المستقلة أو أي إمكانية للنهوض الذاتي حيث بؤر الصراع المشتعلة دائما, وتضارب المصالح بين الناس علي أشدهما دائما. ورغم الفقر والعوز يسعي كل فصيل للسيادة والسيطرة لعله يجد ما يسد به رمقه ويطفئ به شهوته ويحقق به كرامة زائفة أو سيادة خرقاء لا قيمة لها. إن أسوأ ما في الأمر هنا هو أن نري أن المساعدة تأتي ممن كان السبب في كل ما تعانيه هذه الشعوب من فقر مدقع وصراعات لا تنتهي! فليس إنسانا من حرم غيره سبل العيش المستقل والتنمية الذاتية وحسن استغلال موارده, ثم قدم اليه مساعدات ومنح هي في واقع الأمر تكئة للأخذ والمزيد من الاستعباد. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بأنه لدينا مفهومنا الخاص للتقدم والتنمية لايقوم علي التقدير المادي ومضاعفة الفروق المادية بين الأغني والأفقر, إن الانسان العربي المسلم لايعني كثيرا بمظاهر الثراء المادي; انظر إلي هؤلاء المسلمين الأوائل وهم يفتحون بلدان العالم واحدة بعد أخري وهي البلاد التي كانت شديدة الثراء, فقد كانوا ينظرون إلي حدائقها الغناء وقصورها الفاخرة وتحفها النادرة نظرة هامشية, فلا ينبهرون بهذا أو ذاك من هذه المظاهر ويظلون محافظين علي سلوكهم الفطري العادي مكتفين كعادتهم وكما علمهم الإسلام بما هو ضروري من المأكل والمشرب, إنهم لم يلتفتوا إلي هذا الثراء الفاحش والاستمتاع به كما يفعل أثرياء العرب اليوم ولم ينغمسوا في ملذات الحياة علي طريقة أعدائهم كما يفعل العرب اليوم. إنهم باختصار لم يقلدوا سلوك أهل هذه البلاد بل علي العكس أجبروهم علي أن يتخذوا منهم قدوة. إن التقدم الذي كانوا يؤمنون به هو التقدم بالمفهوم الاسلامي الذي يتمثل في الحرص علي السلوك الحسن والقدوة الطيبة في المعاملات, الحرص علي إقامة العدل, لقد كانوا يؤمنون بدونية الدنيا وتفاهة الإقبال علي ملذاتها. إن المفهوم الإسلامي للتنمية الذي كانوا يؤمنون به يتركز في تنمية الإنسان عقيدة وسلوكا, تنميته أخلاقيا, وترقية ذوقه ورهافة حسه حينما يتعامل مع الآخرين, إذ يكون صادقا معهم في معاملاته, وفيا بعهوده, كريما في أخلاقه, حريصا علي أن يعرف أكثر ويزود الآخرين بما توصل إليه من إبداعات علمية وفكرية بدون ادعاء أو من, بدون تعالي أو تعصب. ذلك هو التقدم الحقيقي, التقدم الكيفي الذي يبدو في السلوك في كافة مجالات الحياة, والحرص علي إسعاد الآخرين بقدر الحرص علي إسعاد الذات لكن ليس عن طريق الاستغراق في الرخاء المادي, بل عن طريق الاعتدال في الحياة الدنيوية. وإذا ما أخذنا هاتين الملاحظتين في الاعتبار لتفهمنا علي سبيل المثال حقيقة وصدق ما قالهمفكر غربي قدير مثل روجيه جارودي في كتابه حوار الحضارات: لقد تم تطور المجتمعات الاقتصادية الغربية باقتطاع الموارد العالمية.وأن نمط التطور الذي تمارسه المجتمعات الغربية الصناعية يقود البشرية إلي درب مسدود. إن التخلص من وهم التنمية والتقدم بمعايير الغرب الرأسمالي يبدأ من إدراك أن آليات المنظومة الرأسمالية العالمية كلها تعمل لصالح التنمية والتقدم والتفوق الغربي وليس لصالح الشعوب الأخري بأي حال من الأحوال. ومن ثم علينا أن نحرص علي تنمية مواردنا المستقلة وإبداع الوسائل الكفيلة بصنع التقدم علي الطريقة العربية الإسلامية, وليس مهما أن نمتلك الثروات الطائلة, بل الأهم أن نمتلك ما يكفينا من الغذاء والكساء وسبل العيش الكريم دون الاعتماد علي المساعدات الغربية. إن الاقتصاد والتنمية الحقيقيين يقومان علي الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية التي حبانا الله بها, وليأخذ كل قدر حاجته وقدر جهده وعمله, وليتم التبادل بين الجميع لفوائض انتاجهم بعدالة في التسعير وعدالة في الاستغلال لحقوق المنتج الحقيقي وهو العامل, فضلا عن مراعاة المساواة والعدالة التي يتحقق بموجبها الرضا للجميع عاملين وأصحاب رؤوس أموال. لمزيد من مقالات د. مصطفي النشار