لا يمكن فهم ظاهرة الفنون العشوائية إلا بتأمل مصدرها, فالعمل الفني ما هو إلا مجموعة العناصر المادية التي تجعله دالا كبيرا لا يكتمل مدلوله إلا بالموضوع الجمالي والفكري المستقر في الوعي الجماعي عند الجمهور, إذن ما هو سر الثلاثة عشر مليون جنيه إيرادات أفلام عيد الأضحي؟. وهنا يصبح السؤال: هل يدعم الجمهور فعلا ويختار هذا النوع من الفنون؟ الإجابة: نعم, فهو الذي يستقبل العمل الفني ويدعمه ويرسخ وجوده في عملية الإتصال الجماهيري ذات البعد التجاري. والسؤال في صيغة أخري, لماذا يفعل الجمهور العام ذلك؟ الإجابة: إنه الإحباط العام والاكتئاب الشعبي الذي يذهب بذلك الوحش الغامض ذي الروؤس المليونية ألا وهو الجمهور, إلي عالم التغييب العقلي والجاذبية الحسية عبر تعاطي ذلك النوع من الفنون, حيث ازدادت حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي في ظل غياب تام للفنون الجميلة عن الجمهور العام منذ منتصف السبعينيات حتي الآن, حقيقة الأمر أن فنون السبعينيات القادمة من الهامش مثل أغنيات أحمد عدوية وأفلام عادل إمام وأبرزها الحريف لمحمد خان, ثم كابوريا لأحمد زكي وخيري بشارة, قد صارت الآن هي المتن المنتمي لزمن الفن الجميل, أما فنون الهامش الجديدة فهي أبنة التكنولوجيا الرخيصة واإنهيار التعليم واإتساع نطاق الحريات الشخصية والعامة دون إنجاز حقيقي علي أرض الواقع. فإذا تأملت التكنولوجيا المتطورة عند نجوم الشوارع الخلفية الذين يتعاطون المخدرات والمنشطات كسلوك يومي, ومعها يلعبون بأجهزة الكمبيوتر وبرامج صناعة الموسيقي سهلة الإنتاج, سهلة التوزيع والانتشار, بلحن نشط طازج وذائقة جديدة في الكلمات تأتي من سخونة الشارع وخيال المخدر وتحمل شفرة خاصة تزيدها جاذبية, لوجدتها أغنيات تكسر جمود المتن في الفن بل وتطغي عليه عبر حيويتها وكثافة إنتاجها وهي تسمي بأغنيات المهرجانات, وهذه الأغنيات هي مفتاح فهم نجاح أفلام عيد الأضحي العشوائية. مع التكنولوجيا الرخيصة يستطيع كل مواطن مصري أن يصنع مهرجانه بل وصارت البدائية القادمة من تصوير مشاحنات الشارع السياسية ومشاهد المظاهرات, عبر كاميرا المحمول والكاميرات الخاصة العادية ذوقا فنيا جديدا كرس انتشاره نجاح تلك الصور عبر الفضائيات والإنترنت. وهكذا, أصبحت الحرفية والإجادة في صناعة الفن هي المتن المتجمد أما الفطري الحر العادي العابر غير المنظم الذي ينقل خشونة الواقع وصرامته القبيحة فهو المعتاد القابل للانتشار, ونظرا لأن المتن وخاصة المتن الرسمي الممثل في إنتاج الدولة للفنون قد أصبح قديما مكررا كان أن اجتاحت روح الشارع الطازجة المعبرة عن تغير سلم القيم لدي الشباب المصري المشهد كله. هذه الظاهرة من الفنون الارتجالية تقدم تفسيرها للواقع الذي ينقل نبض الشارع, علينا أن نواجه هذه الحقيقة, الجدير بالذكر أن بعضها يرسل لنا رسائل واضحة تحتاج إلي التأمل مثل الجملة المفتاح لفهم شريحة كبيرة من الشارع المصري الآن والتي جاءت علي لسان محمد رمضان في فيلم قلب الأسد إذ يهمس لصاحبه عن سبب تورطه في العمل بتجارة السلاح غير الشرعية معبرا عن مأساة جيل كامل قائلا:' أصل الحلال بقي حرام شرعا'. بالتأكيد التورية الشعبية الساخرة لا تحرم الحلال ولا تحل الحرام ولكنها تقصد أن الطرق المستقيمة الآن في المجتمع المصري لا تؤدي إلا إلي اللا شيء. ولأن المتن الذي هامشه أغنيات عدوية وسينما خان وبشارة كان عبد الحليم حافظ وسينما يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وكمال الشيخ, لأن الهامش السبعيني والثمانيني من القرن الماضي قد أصبح هو المتن الآن فهذا هو هامشه الجديد أوكا وأورتيجا الطازجين وتوابعهما العشوائية في السينما وغيرها من الأنواع الفنية. بالتأكيد يمكنك أن تتذكر إهانة المسرح المصري في علب الليل المسرحية التي ظلت تعتمد ثلاثية الرقص الشرقي والغناء الشعبي والضحك الخشن منذ منتصف السبعينيات حتي انصرف الجمهور عن بضاعتها المكررة مع أوائل التسعينيات, إلي أن اختفت علب الليل المسرحية تماما, ليظهر المسرح المستقل وتداعيات تيار المسرح التجريبي في إطار نخبوي معزول هو وشبيهه من الإنتاج الفني في مسارح وسط المدينة السرية أو في ساقية الصاوي بجمهورها المنتظم المحدود وهو الهامش الذي ينبغي تعديل خطابه الفني والفكري ودعم وصوله إلي الجمهور العام. ولأن المسرح المدرسي والأنشطة الفنية في المدارس العامة تكاد تكون غائبة منذ أكثر من ربع قرن, وكذلك انفصال دور الثقافة الجماهيرية عن الجمهور العام, فهي منذ سنوات طويلة لا تقدم إلا الأنشطة النادرة في ظلام دامس ولأيام معددوة, كما أن معظم إنتاجها الفني في صيغ متكررة وغير جذابة في معظمها مثلها مثل إنتاجات البيوت الفنية الأخري لوزارة الثقافة, ولأن معظم قنوات التليفزيون المصري خرجت من المنافسة, ولأن الهامش أصبح علامة علي الاختلاف الحر, ولأن الواقع السياسي بعد ثورتين هامتين هما25 يناير و30 يونيو لم يلق علي البسطاء ثمار تذكر, ولأن السوقية في الفن تسللت تحت ستار الشعبية, ولأن العشوائي المصري حزين ذكي بسيط فهو يعبر بعقله الطفل الكبير وبوجدانه المحروم حسيا وعاطفيا عن يأسه من السلوك المنضبط ومن أحاديث ووعود وفنون أصحاب الياقات البيضاء. أريدك أن تتأمل وجه المطرب عمرو دياب وغيره من نجوم الصف الأول لتلحظ معي في عديد من أغنياته هذه العلامة علي حاجبه الأيسر تلك التي تشبه ضربة الموسي والمطواة في الأوجه التي نراها في شارعنا العشوائي, تأمل معي قبضات الأيدي الجلدية وطريقة ارتداء الملابس الحرة الفضفاضة, فتح أزرار القمصان إلي البطن, التناقض في الألوان, تجنب الملابس الرسمية تماما لنجوم الفن, ارتداء هذه الأشياء الغريبة التي يربطها جوار ساعة المعصم كبار محللي السياسية وأساتذتها بأشهر الجامعات, من يطرح صورته إذن؟ إنه الشارع الشاب العشوائي الذي فرض أسلوبه وذوقه في أكثر الأحياء والعواصم ثراء وأكثر الجامعات الخاصة كلفة مادية, إنه بالتأكيد الهامش الثقافي والاجتماعي الذي يحتل بملامحه الجديدة المتن ممثلا في نجوم الفن والمجتمع. ولأن الخيال السياسي لإنقاذ كل ذلك لا يزال غائبا ولأن كل ما فعلته أفلام عيد الأضحي الأخيرة ما هو إلا إعادة محاكاة الواقع المختل ووضعه أمام أعيننا صادما مخيفا فصرخنا نطلب المقاطعة ونعلن الرفض بينما لم نتأمل الظاهرة لنفهم أسبابها علي النحو الذي أحاوله هنا, ولأن الخيال السياسي لإنقاذ كل ذلك لايزال غائبا ولأن لغة القوة هي التي تحل كل النزاعات علي أرض الواقع, فإن البطل البلطجي هو النموذج السينمائي المحبب للشباب, ولأن الحب والزواج أضحي حلما بعيد المنال للفتيات فتلك هي نماذج الاحتذاء وحل المعضلة لغة القوة والجسد. وقد انعكس ذلك بوضوح خلال السنوات العشر الماضية علي نوعية المجرمين في حداثة السن وخاصة جرائم القتل السهلة العادية, وجرائم الهروب من المنزل المتكررة لفتيات ضائعات, وهكذا أصبحت احتياجات المراهقة المسفة انعكاسا لصورة الفن الجماهيري في مصر. بالتأكيد ليست هذه هي مصر, وليس هذا كل جمهورها, وستفاجئنا كما فاجأتنا بثورة25 يناير فستذهب سكرة الرخص والاكتئاب, وتعود الطرق المستقيمة قادرة علي أن تصل بنا للأهداف الصحيحة, لا شك أن ذلك الأمل والإصلاح المنشود لا يمكن أن يحدث إلا بخطة للتنمية الشاملة وبإرادة سياسية تؤمن بأن التنمية الثقافية هي عماد تغيير وجه الحياة في مصر الذي سيعبر عن نفسه في فن جميل قادم بالتأكيد. لمزيد من مقالات د . حسام عطا