محمد أبو الدهب تجربة شخصية وإبداعية اختار صاحبها- رغم تألقه الخاص بين أبناء جيله أن ينزوي بها جانبا ليكتب في هدوء. يمارس مراقبة جنائز من غافلهم الموت ويسخر أو يحزن بطريقته شريطة ألا يخون الكتابة سبعة أعمال قصصية أخرجتها آلة الحزن للقاص محمد أبو الدهب الذي حاورناه في السطور التالية أخر أعمالك( يليق بسكران) كان لحد ما بعيدا عن حالة الطواف حول الموت, وهي سمة ملازمة لأغلب أعمالك. هل يمكن اعتبارها محاولة لكسر الحالة التي لازمتك إبداعيا لسنوات؟ لا أظن أني اكتفيت من الكتابة عن الموت, وهل يمكن أصلا الاكتفاء من الموت؟!. لكن( يليق بسكران) تجربة كان لا بد أن تكتب في هذا التوقيت, إنها بمثابة اعتذار لكثيرين ممن أخطئ في حقهم كل يوم, وعزاء لي عن وجودي الملتبس.( يليق بسكران) مغلفة بهاجس الموت علي نحو أكثر حدة من كتبي السابقة لكني لم استخدم مرادفات الموت ومفرداته بكثرة ومباشرة, بل كنت ساخرا وخفيفا! في مجموعتك( نصوص الأشباح) قسمت النص لأربع مجموعات, حمل كل منها عنوانا تحته عناوين أخري فرعية لقصص تدور غالبا في فلك الفكرة وهو شكل غير معتاد, هل هي محاولة للتجريب أم أن العمل استدعي هذا؟ الكتابة الحقيقية حالة من التجريب المستمر, وتغيير القناعات بخصوص الطرق التي بها نكتب ضمانا للوصول إلي نص مختلف.( نصوص الأشباح) احتوت علي أربع روايات قصيرة جدا, أو أربع متتاليات قصصية, أردت أن يصعد كل سطر فيها بداية من العنوان بالقارئ إلي حالة تجعله يطمئن إلي تسكينه في احد نصوصها كشبح, او يصنع هو نصه بعيدا عن اشباحي!.. وعموما أنا أسرد, ولا أتنبأ بما سيكون عليه شكل هذا السرد, فالتصنيف ليس من مهام وظيفتي! التكثيف الشديد للفكرة واختصار اللغة لأقل عدد من الكلمات والوصول لقصة لا تزيد علي ثلاث اسطر أمر لا يخلو منه عمل من أعمالك. هل هي حالة تحد خاصة للكتابة أم انك فعلا تري أن القصة لا تستحق أكثر من هذا؟ التكثيف لازم بديهي من لوازم كتابة القصة, وهو بالمناسبة لا علاقة له بطول أو قصر النص, إنما هو قدرتك علي ألا ينفلت منك القارئ,ورغم ذلك فإذا كنت قادرا علي ان أقول ما أريد في ثلاثة اسطر فلماذا أقوله في ثلاثة أسطر ونصف؟ لا أذكر اني سمعت تعليقا من قبيل( هذه الجملة زائدة, أو هذه الكلمة ليس لها ضرورة) اللهم الا في البدايات المبكرة جدا. ثم انني صموت بطبعي, أسمع أكثر مما أتكلم, وأحذف أكثر مما أكتب, وأترقب الموت أكثر مما أحتفي بالحياة. ثلاثة أعمال من2008 إلي2011 تكتب فيها عن الموت, تحكي عنه وتؤرخ له وكأنه الحقيقة الوحيدة أو كما تقول أننا نموت منذ اللحظة التي نولد فيها,... لماذا كل هذا الانخراط في الحالة والي أي مدي تؤثر التجربة الشخصية علي إبداع الكاتب؟ الموت تجربة شخصية لكل كائن, وليست لي وحدي. إنه سردية كبري منذ وجود البشر. انشغلت به مبكرا. عرفته حتي قبل أن أعرف ما يجب ان تكون عليه الحياة. في نصوصي الأولي كنت أكتب عنه كما لو أني أقدم قربانا لوحش يوشك أن يفترسني, بعد ذلك صرت ألاعبه, وأسخر منه, وأضحك معه, وأعامله ككائن آخر مسكين, لكني ظللت كلما شيعت جنازة قلت بانفعال( إن الكتابة عن شيء غير الموت خيانة). اللغة في أعمالك لها طبيعة خاصة جدا في حدتها ودقتها وتدقيقها. إلي أي مدي أنت شغوف باللغة, وأيهما يغلب الأخر عندك اللغة أم الفكرة؟ اللغة رهان أساسي, ولا أعرف أن مبدعا بإمكانه أن يختار بين اللغة والفكرة. وإذا كان المتلقي سيقرأ ما هو قادر علي كتابته بسهولة فما مبرر التفرقة بين المبدع والمتلقي. أحيانا أخفي قصة لأسابيع لأن تركيب جملة واحدة فيها لا يريحني. القصة القصيرة جدا واللغة في صراع مراوغ ممتد, أشبه بلعبة القط و الفأر, لأنها لا تعطي كاتبها مساحة لإظهار خصائصه الأسلوبية واللغوية, لذا فإنه بحاجة دائما لمزيد من الحذر والتدقيق والكتابة بنفس شعري, وإلا فإنه سيكون في ورطة! في مجموعتك( نزهة في مقبرة) القصص تبدو شديدة القصر وسريعة جدا في إيقاعها وكلها تدور عن فكرة الموت. إلي أي مدي تري انك نجحت في تنويع الفكرة؟ (نزهة في المقبرة) أحبها الكثيرون برغم أنها من أشد مجموعاتي القصصية كآبة. كانت حلقة ضرورية في سلسلة تقليبي لهاجس الموت من جميع جوانبه, وفيها لم أعد خائفا منه, وإنما كنت معنيا بالطرائق التي يموت بها الآخرون, وبالأعمار التي يموتون عليها, وبهمسات خاصة للأحياء لا يجب أن يسمعها الموتي, وبمحاولات العودة إلي الشباب تأخيرا لقدوم الموت. وددت لو أقول للقاريء من خلال نصوصها القصيرة جدا: طالما أنك لم تمت بعد فإنك لن تموت ابدا. ( يليق بسكران) سميتها متتالية قصصية. لماذا؟ ولماذا لم تكتب رواية مثلا رغم أن العمل كله يكاد يرتبط ببطل واحد؟ ألا تملك جرأة أن تكتب رواية؟ ظللت منتشيا لفترة طويلة بوصفي القابض علي الجمر, المخلص لفن القصة, الذي لم يستجب لإغراء الرواية في زمنها,عندما كتبت( يليق بسكران) وكنت في البداية مقدما علي كتابة قصة لا تتجاوز الصفحتين, فوجدتني كتبت ستين صفحة. ما يعنيني في المقام الأول هو أن أظل أكتب. أشرت علي غلاف( يليق بسكران) إلي أنها متتالية قصصية بسبب هذه الصراعات التي تدور داخلي علي مدار الأعوام, ثم إنني لم أكن واثقا أني أتممت رواية. رغم انك كمبدع تبدو خصوصيتك الشديدة بين أبناء جيلك- إلا انك اقلهم شهرة وانتشارا بل تبدو زاهدا عن الظهور. لماذا؟ هل هو اختيار شخصي أم أن ظروف الوسط الأدبي فرضت عليك هذا؟ لابد أن أعترف أني كسول, وأن الكسل صار أحد أدواتي في الكتابة!! أهرب من الكتابة بالقراءة, وأتملص من الوجود دائما بحجج تبدو غير مقنعة. ورغم ذلك أعرف أني غير مقل في الكتابة, وأني قانع بالمتابعات النقدية لأعمالي, وجربت قراءة بعض قصصي بلغة أخري غير العربية, وأعرف أني موجود بقدر مقبول بين أبناء جيلي, ربما الفوز بجائزة كبري يضبط الموازين كثيرا, وهذا ما لم يحدث معي, لكن لأن وضعية الأدب في مصر صعبة, تشبه الحرث في البحر, ولأن ظروف الوسط الأدبي معقدة, لا أتصور أن بين الأدباء الكثير من المشاهير. تمارس أيضا النقد الأدبي, وهي سمة أصبحت ملازمة لأجيال الشباب.. كيف تري النقد ألان وهل أنت مع الرافضين لتيار النقد الكلاسيكي القديم؟ الإبداع أكثر ديمومة من النقد, ولا أشعر بالراحة تجاه كاتب يتوق لأن يكتب عنه أكثر مما يتوق لأن يكتب هو. هل يوجد ناقد نزيه يتنقل كل شهر مرة بين المكتبات ليتابع إصدارات جديدة لأسماء لا يعرفها فيكتب عما يدهشه بحياد؟.. أشك. كثير من النقاد لا يكتبون إلا عمن يعرفون أو من يهدونهم كتبهم, فتتحول بذلك الحياة الأدبية إلي جزر منعزلة, كل جزيرة تعرف سكانها فقط. ومعظم النقاد الأكاديميين الآن فاشيون, يتعاملون مع الأدباء كما يتعاملون مع طلابهم, ويقرأون إبداعاتهم كما يصححون أوراق أجوبة الامتحانات, ويريدون تطويع الإبداع حسب آليات نقدية عفا عليها الزمن. لا يروقني النقد الآن إلا الذي ينتجه المبدعون, لأنهم يدركون أن البقاء للكتابة, ولأنهم أعمق استشعارا بالدروب التي تمهدها حواس المبدعين تبدو أيضا أكثر بعدا عن الانخراط في السياسة وكتاباتك اقرب للكتابة الشخصانية. فأنت تدور في فلك أحزانك وتجاربك الإبداعية.. ألا تري أن السياسة هي جزء من تشكيل وعي أي مبدع وهل هذا اختيار شخصي؟ لا أكتب لكي أرغم القصة علي القيام بدور تقوم به أو منوط أن تقوم به الأحزاب والتيارات والصحف والفضائيات. لو كتبت عن الثورة مثلا سأكتب عن قصص الحب والموت في الميدان, لكني أحاول أن أعرف ذاتي أكثر, وهذا ما يشترك فيه كل البشر بغض النظر عن مواصفات مجتمعاتهم. لو أن الأديب اتبع هواه وأراد أن يكون ناشطا سياسيا شهيرا خاصة بعد الثورة لكان ذلك سهلا للغاية, لكني أشفق علي قلة من الأدباء يظهرون كثيرا في الإعلام ويخلطون بسذاجة بين خطابهم الفني والأيديولوجي. ومع ذلك فقد كنت مستنفرا طول الوقت ضد النظام, لكن استنفاري هذا يتم التعبير عنه من خلال جملة في قصة عن شخص سقطت زوجته في بئر المصعد من الدور الخامس.