قد يكون التنظير للمصطلحات العلمية والفكرية والدعوية والإيمانية سهلا عند كثير من العلماء والمثقفين, وحتي لدي بعض أشباه المثقفين وفق محصولهم الثقافي والمعرفي, لكن القضية الحقيقية تكمن في مستوي الوعي بالمصطلح ومستوي تطبيقه. فالتوكل علي الله عز وجل يقع في منطقة وسط بين الشطط في الأسباب والتعلق المطلق بها وبين التواكل القائم علي إهمال الأسباب أو تعطيلها أو تهميشها, فهو قائم علي الأخذ بالأسباب بقوة وجدية, وهمة وعزيمة, وتفويض أمر النتائج لله, عز وجل, فعندما يقول الحق سبحانه: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة يقول أهل العلم: إن ما هنا غائية, أي أعدوا لهم أقصي ما تملكون وما تستطيعون من أسباب القوة, فإذا أخذتم بهذه الأسباب في أقصي درجاتها فأنتم بين إحدي الحسنيين إما النصر وإما الشهادة, وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم, أي أنكم لا تنتصرون بمجرد أسبابكم البشرية, إنما بتوفيق الله لكم, وإعماله لهذه الأسباب وإجراء حكمته بنفاذها لا بتعطيلها, فهو القادر علي إعمال الأسباب أو وقف حركتها وجريانها, إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون, غير أن حكمته ورحمته وعدله اقتضت أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا. ونري الناس في هذه القضية ثلاثة أصناف: فريق عطل الأسباب, ولم يحسن التوكل, وإنما تواكل وتكاسل, فهؤلاء نقول لهم ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني, وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. كما نذكرهم بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: لو توكلتم علي الله عز وجل حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا أي تذهب شديدة الجوع وتعود ممتلئة البطون.غير أنها تعمل وتتحرك وتأخذ بالأسباب, فهي لا تجمد في مكانها وأعشاشها وتقول اللهم ارزقني أو أمطر علي حبك ورزقك, إنما هي تغدو وتروح وتأخذ بالأسباب. ومما يدعم قضية الأخذ بالأسباب قوله تعالي: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور وقول النبي صلي الله عليه وسلم: خيركم من يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده وقوله من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له, وفي قوله تعالي لمريم, عليها السلام, وهي نفساء: وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا إشارة واضحة إلي أهمية الأخذ بالأسباب, وإلا فما عسي أن تفعل نفساء ضعيفة في جذع نخلة راسخة قوية, لقد كان من الممكن عقلا وواقعا أن يأتيها التمر علي طبق من ذهب دون عناء أو تعب, وهنا يقول الشاعر: ألم تر أن الله قال لمريم.. وهزي إليك الجذع تساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزة.. جنته ولكن كل شيء له سبب ويقول الإمام علي رضي الله عنه: لحمل الصخر من قمم الجبال.. أحب إلي من من الرجال يقول الناس لي في الكسب عيب.. فقلت: العيب في ذل السؤال أما الفريق الثاني فقد أسرف في اعتماده علي الأسباب, ظانا أو متوهما أن الأسباب تؤدي بطبيعتها إلي النتائج, غير مدرك أن للكون خالقا قادرا حكيما يقول للشيء كن فيكون, يعمل أسبابه حيث يريد, ويعطلها حيث يريد, وإننا في حاجة ماسة إلي رحمته وتوفيقه, ولله در قائل: إذا صح عون الخالق المرء لم يجدعسيرا من الآمال إلا ميسرا ويقول الحق سبحانه: أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون64 لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون65 إنا لمغرمون66 بل نحن محرومون67 أفرأيتم الماء الذي تشربون68 أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون69 لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون70 أفرأيتم النار التي تورون71 أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون72 نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين73 فسبح باسم ربك العظيم. وأما الفريق الثالث فهو من شرح الله صدره للإسلام علما وفهما وتطبيقا, فأخذ بالأسباب بقوة, مفوضا أمره في النتائج إلي الله عز وجل, راضيا بها مدركا أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه, وما أصابه لم يكن ليخطئه, تنطلق حركة حياته في ظل قوله تعالي: ومن يتوكل علي الله فهو حسبه, وقوله تعالي: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا, وقوله تعالي: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب, وقوله تعالي:- ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. وكان سيدنا عراك بن مالك, يأتي إلي المسجد يوم الجمعة مبكرا للصلاة, فإذا قضيت الصلاة وقف علي باب المسجد قائلا: اللهم إني قد أجبت دعوتك, وأديت فريضتك, وانطلقت كما أمرتني فارزقني من فضلك الكريم استجابة عملية وتطبيقية لقوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة