ضمن مواد عديدة لعل أهمها نسبة تمثيل العمال والفلاحين في البرلمان, ونظام التصويت الانتخابي, يدور الجدل الآن داخل لجنة الخمسين حول مستقبل مجلس الشوري( الغرفة الثانية في البرلمان المصري) في الدستور الجديد وهل يستمر قائما كما كان في ظل دستور1971 أم لا؟. ولعل الجميع لايزالون يذكرون كيف جرت انتخابات مجلس الشوري الماضية في ظل هدوء قاتل يكشف عن عدم اكتراث عام من المصريين في الداخل والخارج, فضلا عن عدم انتباه غيرهم, إلي درجة تثير الشكوك في جدوي هذا المجلس الذي ننادي هنا بضرورة إلغائه لعدة دوافع منها ثلاثة أساسية: الدافع الأول سياسي يتعلق بعدم فاعلية هذا المجلس الذي لم يعرف عنه دور تشريعي مميز, وما كان له سوي دور استشاري محدود لايستحق الصيت السياسي الذي يتمتع به, والصخب الكبير المحيط به, خصوصا بعد أن سحبت منه مهمة كبري لعلها كانت الأكثر أهمية بين مهامه المحدودة وهي الإشراف علي المؤسسات الصحفية القومية الكبري منها والصغري, وهي المهمة التي يفترض أن تؤول إلي مجلس وطني للإعلام يشرف علي هذه المؤسسات مع التليفزيون الرسمي بحسب الدستور الجديد. بل وحتي هذه المهمة الكبيرة نفسها والتي كانت له في الماضي, ربما كانت كذلك ظاهريا فقط, ذلك ان قرارات تعيين رؤساء تلك المؤسسات سواء في الإدارة أو التحرير, وهي المكون الأكبر في تلك المهمة, كانت تخرج من المجلس, ممهورة بتوقيع قيادته رسميا, غير أن اختيارهم الفعلي كان يخضع لتجاذبات مؤسسات الدولة الأخري الأمنية والسيادية, بل ربما جاز القول أن دور المجلس فعليا علي هذا الصعيد كان أقل الأدوار بين تلك المؤسسات جميعا. أما الدافع الثاني فمادي, حيث التكلفة المادية الكبري لانتخاب هذا المجلس والإنفاق عليه وتلبية امتيازات أعضائه, فالتكلفة المادية للانتخابات الأخيرة لم تقل في أقل التقديرات التي صدرت آنذاك عن اللجنة العليا عن نصف المليار, بينما ارتفعت في تقديرات أخري إلي نحو المليار جنيه. فإذا ما أضفنا إلي ذلك التكلفة الإدارية المتعلقة بمصروفات الإنفاق الشهري الجاري علي هذا المجلس من مرتبات ومكافآت وامتيازات للأعضاء أنفسهم, وكذلك, أجور ومكافآت الموظفين والإداريين الذين تضخمت أعدادهم إلي درجة كبيرة حيث تحول المجلس علي مدي زمني طويل إلي باب خلفي للمجاملات حيث التعيينات غير المبررة, تبدي حجم التكلفة المادية الكبيرة لهذا المجلس إلي درجة تجعل منه عبئا كبيرا علي الموازنة المصرية خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار حجم المآزق الاقتصادية الكبيرة التي تمر بها مصر وتجعل وضعها المالي صعبا إن لم يكن خطيرا. وأما الدافع الثالث والأهم فتاريخ يتعلق بفلسفة تشكيل ما يسمي بالغرفة البرلمانية الثانية في سياق تطور المجتمعات الديمقراطية العريقة وهو الأمر الأكثر أهمية هنا, إذ يتعلق إما بنمط التطور التاريخي الخاص لهذه المجتمعات, أو بالتصدي لمشكلات واقعية تعاني منها. فعلي سبيل المثال نجد أن مجلس اللوردات في انجلترا كان محاولة عملية للتوفيق بين نزعتين متناقضتين في نمط التطور الجتماعي والسياسي الانجليزي: الأولي هي النزعة الديمقراطية الجديدة والعارمة منذ ثورة كرومويل منتصف القرن السابع عشر, وهي نزعة مساواتية تؤمن بحق الفرد أيا كان في التعبير عن رأيه, الأمر الذي وصل ذروته مع نهاية الحرب العالمية الأولي إلي القاعدة الأثيرة في النظام الديمقراطي التمثيلي( صوت لكل مواطن), فلم تعد المرأة, ولا غير دافعي الضرائب مستثنين من العملية الديمقراطية. أما الثانية فهي النزعة الأرستقراطية الموروثة, وهي نزعة كانت تعتقد في تمايز الأفراد لاعتبارات طبقية ومعرفية, كانت تسبق الاعتبارات السياسية, الأمر الذي كان يقتضي إعطاء درجات أهمية مختلفة لإرادة المواطنين, بين هؤلاء وأولئك, ومن ثم اعطاء الأهمية نفسها لطبيعة تمثيلهم في النظام السياسي. وبينما عبر مجلس النواب البريطاني عن النزعة الديمقراطية المتنامية, فقد جسد مجلس اللوردات النزعة الأرستقراطية الموروثة, ولذا كانت له خصوصية في طريق تشكيله ونوعية أعضائه تعويلا علي أصولهم الاجتماعية أو مكانتهم العلمية. أما مجلس الشيوخ الأمريكي فيعكس الحاجة الواقعية لتحقيق التوازن داخل نظام سياسي( اتحادي) لا مركزي, فهناك خمسون ولاية اتحدت في نظام فيدرالي ولا ترغب في فقدان هويتها الإقليمية داخل النظام المركزي. ومن ثم مثلت صيغة المجلسين هناك حلا توفيقيا لهذه الحاجة السياسية. فثمة مجلس الشيوخ يحقق رغبة هذه الولايات في الشعور بالندية والتكافؤ مع غيرها من الولايات عن طريق التمثيل بعضوين لكل منها مهما كان التباين في المساحة وعدد السكان والأهمية الاقتصادية, وثمة مجلس النواب يحقق الرغبة العكسية في الاتحاد والتآلف والمركزية من خلال تمثيل نسبي ديمقراطي يراعي هذه الأبعاد. وعلي العكس من الحالتين يأتي مجلس الشوري في مصر, إذ لا توجد النزعة الأرستقراطية الإنجليزية التي تتسق والروح الملكية بل نزعة مساواتية كاملة يعبر عنها نظام جمهوري واضح. ولا يوجد اختلاف واضح في طريق تشكيله عن مجلس الشعب حيث طريقة الانتخاب ومقومات العضوية واحدة, حتي أننا نجد مرشحا يفشل في انتخابات الشعب سرعان ما يرشح نفسه للشوري, والعكس صحيح. كما لا توجد تلك الحاجة الواقعية الأمريكية للتوفيق بين الفيدرالية والمركزية, فمصر ليست فقط دولة مركزية بل هي أصل ومنوال المركزية في التاريخ الإنساني كله, ومن ثم لا يفرض علينا تاريخنا ولا جغرافيتنا ضرورة وجود هذا المجلس كغرفة برلمانية ثانية. وإذا كانت هناك حاجة واقعية يتحدث عنها البعض لوجود قامات معرفية وشخصيات عامة في البرلمان لا تستطيع خوض الانتخابات عمليا, فمن الممكن حل تلك المعضلة بالنص الدستوري علي تعيين خمسين شخصية عامة بمجلس الشعب من ذوي الاستحقاق القادرين علي إثراء النقاش داخلة, مما يوفر الوقت والجهد لأن آراءهم ستكون محل اعتبار مباشر من الآخرين وهم بصدد تشريع القوانين بدلا من انتظار مراجعتها بعد سنها, وتلك ميزة إضافية توفر الوقت وتزيد الفعالية. وهنا يتبدي سخف الفكرة القائلة بنغيير مسمي المجلس من الشوري إلي الشيوخ حسبما كان الأمر في ظل العهد الملكي, فالمعضلة ليست في المسمي بل في الأدوار والمهام, وفي طبيعة الأهداف والمثل السياسية المبتغاة. لمزيد من مقالات صلاح سالم