لا شيء أكثر طمأنينة للنفس, وتزكية لها, وارتقاء بها, من لجوئها إلي الله( عز وجل), واعتصامها به, واحتمائها بركنه الشديد. ولا شيء أكثر ضبطا لسلوكها من حسن مراقبتها له, وخوفها منه, وقد قالوا: من الصعب, بل ربما كانمن المستبعد أو المستحيل أن تخصص لكل إنسان شرطيا يحرسه, أو مراقبا يلازمه ويراقبه, وحتي لو فعلنا ذلك فالحارس قد يحتاج إلي من يحرسه, والمراقب قد يحتاج إلي من يراقبه, ولكن من السهل أن نربي في كل إنسان ضميرا حيا ينبض بالحق, ويدفع إليه, راقبناه أم لم نراقبه, لأنه يراقب من لا تأخذه سنة ولا نوم. ولا شك أن العبادات كلها تهدف إلي تقوية هذه المراقبة, وتصحيح السلوك الإنساني, فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر. والصوم سر بين العبد وخالقه, ومن أهم معانيه تحقيق التقوي والمراقبة لله( عز وجل) أما شعيرتنا التي أكرمنا الله بأدائها, و ترنو أبصار وأفئدة المسلمين جمعيا إليها في هذه الأيام فهي شعيرة الحج ومناسكه, حيث التضحية بالمال و الجهد و البدن, إذ يبدأ الإنسان عند خروجه من منزله بدعاء السفر: اللهم إنك أنت الصاحب في السفر و الخليفة في المال و الأهل والولد, فيلقي حموله و همومه و أحواله كلها إلي أمر ربه( عز و جل), مدركا أن الأمر كله لله, ولو صدقت نية الحاج فهو في معية الله وفي ولايته, حيث يقول الحق سبحانه: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و في الآخرة, ومن تولاه الله كفاه و أغناه وأراح نفسه و قلبه, يقول سبحانه: ومن يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب, ويقول سبحانه: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا, ويقول سبحانه ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته و يعظم له أجرا, ويقول سبحانه: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ويقول سبحانه: أليس الله بكاف عبده. ثم يتجرد الإنسان من الدنيا وعلائقها من مال و عتاد وولد وسلطان محرما بلباس متجردة هي أشبهما يكون بتلك الأكفان التي يلقي بها ربه, وعلي العاقل أن يستحضر أن هذا اليوم آت لا محالة, و كل طويل في حساب الزمن قصير, والسعيد من وعظ بغيره, و الشقي من وعظ بنفسه, والعاقل من يبيع دنياه بآخرته, و الأحمق من يبيع آخرته بشيء من متاع الدنيا الزائل, وفي هذا نذكر بقول القائل: يابن آدم أنت في حاجة إلي نصيبكمن الدنيا لكنك إلي نصيبك من الآخرة أحوج, فإن أنت بدأت بنصيبك من الدنيا ضيعت نصيبك من الآخرة, وكنت في نصيبك من الدنيا علي خطر وإن أنت بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما فأصلح الله لك أمر الدنيا و الآخرة, و يقول نبينا( صلي الله عليه و سلم) من كانت الدنيا همه فرق الله شمله و جعل فقره بين عينيه وليس له من الدنيا إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة همه جمع الله شمله و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا و هي راغمة. وعندما يتعلق الإنسان بأستار الكعبة يدرك بلا شك أنه يأوي إلي ركن شديد ورب عظيم رحيم, حيث الأمل في رحمة الله ورضوانه, في كشف الكرب, وجلاء الظلم, وفتح أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة, وذلك عند بيت الله المحرم, حيث أمر اللهعز وجل نبيه وخليله إبراهيم( عليه السلام) أن يؤذن في الناس بالحج, واستجاب إبراهيم( عليه السلام), بلا تفكير ولا تردد مع أن الأرض آنذاك كانت صحراء قاحلة لا إنس ولا بشر, لكن إبراهيم( عليه السلام) كان يدرك أن الخير في طاعة الله( عز وجل), وأن ما عليه هو تنفيذ الأمر الإلهي, وأن الاستجابة أو عدم الاستجابة لندائه هي ليست من حوله ولا قوته, إنما هي من مشيئة الله وإرادته إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين, أذن يا إبراهيم وعلي الله البلاغ, فأذن إبراهيم وبلغ نداؤه العالمين, فأتوا من كلحدب وصوب رجالا وركبانا من كل فج عميق يرجون رحمة ربهم ويخافون عقابه, يحدوهم الأمل في القبول والغفران, وأن يصلح الله عز وجل أحوال البلاد والعباد, وأن ييسر لمصر وأهلها سبل الرشاد والأمن والأمان والاستقرار. ثم يأتي السعي بعد الطواف ليدرك الإنسان ما كان من أم إسماعيل في أخذها بالأسباب, وليت المسلمين جميعا حجاجا وغيرحجاج يستفيدون من هذه الدروس في الأخذ بالأسباب, ويدركون أن الله عز وجل لا يضيع أجر المجتهدين. ويأتي السعي بين الصفا والمروة في إطار رمزية كبري هي السعي والعمل لنصرة دين الله من جهة, وإعمار الكون لصالح البلاد والعباد من جهة أخري. ويأتي تقديم الهدي ونحر الأضاحي لتخليص النفس من علائق الشح والبخل, في رمزية كبري للتضحية في سبيل الله, وفي سبيل الوطن, وفي قضاء حوائج الناس من إطعام الجائع وكساء العاري وإغاثة الملهوف, وإسكان الشباب, وبناء المجتمعات بتوفيرها ما تحتاجه من مقومات لا بد منها في مجالات الصحة, والتعليم, والطاقة, وغير ذلك. أما الرجم فإشارة إلي العداء المستحكم بين الشيطان وبني الإنسان, ليدرك الإنسان في كل زمان ومكان أن الشيطان عدومبين, متربص بالإنسان, قاعد له علي كل صراط مستقيم يعمل علي ضلاله وغوايته, يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله إلا من رحم رب العالمين, نسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا للفهم الصحيح للإسلام, وأن يجعلنا علي طريق السماحة والوسطية حيث لا إفراط ولا تفريط, وأن يرزقنا حسن المراقبة لله عز وجل في سرنا وعلننا, إنه ولي ذلك والقادر عليه. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة