رغم انه لم يعد خافيا علي أحد ما يجري اليوم في العراق, فإن الغريب حقيقة هو هذا الصمت الإقليمي والدولي علي مشاهد الخراب والدمار والأرواح المزهقة كل يوم. وكأن ما يحدث بات أمرا مسلما به أو بمعني أدق انه تم الاستسلام لمخطط التقسيم المرسوم له, ذلك في ظل الأزمات المحيطة بغالبية دول المنطقة في مواجهة المخططات الأمريكية الإسرائيلية ضدها, التي مازال العراق يدفع ثمنا لها من دماء أبنائه يوما بعد الآخر, هذا في ظل حرب طائفية ماضية في طريقها ربما لأبعد ما خطط وأريد له بالضبط ومن ثم فلم تعد تصريحات جو بايدن حول تقسيم العراق إلي ثلاثة أقاليم سني وشيعي وكردي المتكررة بالجديدة أو المستغربة, خاصة بعدما تحولت إلي واقع ملموس, بأيدي العراقيين أنفسهم, الأمر الذي بات يطرح التساؤل: هل بات تقسيم العراق حسب مشروع بايدن بمثابة الأمر الواقع؟!.. أم تفرض انتخابات2014 واقعا جديدا؟!. نشر عام1957 كتاب بعنوان خنجر إسرائيل لمؤلفه الهندي ر. ك. كرانيجيا, ويقال إن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي وقف وراء فكرة الكتاب, كما زود المؤلف بوثائق مسربة من الجيش الإسرائيلي, وتضمن الكتاب مخطط إسرائيل لتقسيم العراق علي أن يبدأ التقسيم بتشكيل دولة كردية وفصلها ثم اقتطاع دويلة شيعية. وفي عام1973 قدم مهندس السياسة الأمريكية هنري كيسنجر مشروعا تجدد الحديث عنه عام1983 يتضمن تقسيم جميع دول المنطقة العربية علي أسس طائفية, ذلك فيما كانت مجلة كيفونيم الإسرائيلية قد نشرت في14فبراير1982خطط إسرائيل لتقسيم العراق وسوريا, واعتبرت المجلة أن العراق أشد خطرا علي إسرائيل من بقية الدول وأكدت أن أفضل طريقة لتمزيقه هو إثارة الصراع الدموي بين مكوناته. غير أن العديد من المراقبين يعتقدون في أن الإرهاصات الأولي لتقسيم العراق قد بدأت عندما قرر مجلس الأمن بضغط أمريكي تحديد مناطق حظر طيران تحت عنوان حماية الشيعة والأكراد في الجنوب والشمال في التسعينيات من القرن الماضي مع حرص الإعلام الأمريكي علي ترسيخ عبارة حماية الأكراد والشيعة. وقبل حرب عاصفة الصحراء مطلع التسعينيات دعا أستاذ القانون الأمريكي والمستشار في البيت الأبيض آلان توبول, من خلال موقع الكتروني تابع للجيش الأمريكي إلي الإسراع بتقسيم العراق, قائلا إن: عدد دول العالم حاليا193 دولة وليست هناك مشكلة إذا أصبحت196 دولة, في إشارة إلي3 دويلات ناتجة من تقسيم العراق. هذا فيما نشر مركز ستراتفور للدراسات سنة2002 أن الإستراتيجية الأمريكية البعيدة المدي, التي تعقب غزو الولاياتالمتحدة للعراق هي تقسيم البلد إلي ثلاث مناطق منفصلة: منطقة سنية في الوسط تنضم إلي الأردن, منطقة شيعية في الجنوب تنضم إلي الكويت أو إيران, ومنطقة كردية ضمنها الموصل وكركوك. وقبل الغزو الأمريكي للعراق سنة2003 ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن أحد أهداف غزو العراق اقتطاع المحافظات السنية وضمها إلي الأردن, ثم عاد لتكرار الأمر نفسه الخبير الإسرائيلي لشئون الإرهاب إيهود سبرينزاك في حديث للتليفزيون الروسي في24 نوفمبر2002, الذي قال إن مشروع تشكيل المملكة الهاشمية المتحدة يقف وراءه ديك تشيني وبول وولفوفيتز. هذا المخطط هو ما ترجم بعدها في الدستور العراقي بدعم أمريكي, الذي منح حق تقرير المصير للأكراد وحق تشكيل الأقاليم غير الإدارية في إطار دولة فيدرالية, لتستكمل حلقات المشروع بعدها بموافقة الكونجرس الأمريكي وإقرار مجلس الشيوخ في2007 لخطة غير ملزمة لتقسيم العراق إلي ثلاثة أقاليم, قدمها السيناتور جو بايدن, الذي كان وقتها يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ, ثم بات اليوم نائبا للرئيس والمسئول المباشر عن الملف العراقي. التقسيم.. إرادة شعب وفي هذا السياق, كشفت صحيفة( هوال) الكردية عن مشروع يتم تداوله حاليا بين قيادات في الموصل لإقامة إقليم يضم محافظات كركوك ونينوي وصلاح الدين وديالي, علي أن تكون كركوك عاصمة له. ونقلت الصحيفة عن مصادر في الموصل قولها إن تحركات مكثفة تقوم بها قيادات في المحافظة من أجل جمع التأييد لهذا المشروع, الذي ستكون رئاسته دورية بين محافظات الإقليم, وهيكله الإداري يماثل إقليم كردستان العراق الحالي وسيضم في المرحلة الأولي محافظات كركوك والموصل وتكريت وديالي, ليتم بعدها الاندماج مع إقليم كردستان. وهو ما يأتي متوافقا مع ما قد سبق وأعرب عنه النائب عن قائمة دولة القانون, جواد البزوني في تصريح صحفي له من أن حل الأزمة, التي يمر بها العراق هو تقسيمه إلي ثلاث دول, مشيرا إلي أن تقسيم العراق بات اليوم مطلبا سياسيا وشعبيا؟!. ودعا البزوني أبناء الشيعة في محافظتي نينوي وكركوك إلي الهجرة للجنوب, معللا الأمر علي أن المسالة خرجت عن السيطرة وأصبحت خارج قدرة السياسيين وقادة الكتل والأحزاب, ولذلك دخلت المرجعيات علي الخط, وهي الآن الوحيدة القادرة علي توجيه الأمور, ولكن ضمن الرقعة الطائفية لكل مكون, ولذلك أصبحنا أمام ثلاثة أقاليم متنازعة علي مناطق وجودها, الأمر الذي سيؤدي حتما إلي تقسيم العراق. أمريكا.. الرجل المنهك وتحت عنوان: نعم العراق يتفكك.. كتب مايكل نايتس في الفورين بوليسي, إنه في الوقت الذي كانت فيه القوات الأمريكية تنسحب من العراق عام2010, كانت جهود الولاياتالمتحدة لتحقيق الاستقرار في تلك البلاد تشبه رجلا منهكا كان يدفع صخرة ضخمة علي تل منحدر. وكانت قوة الدفع هذه قد بنيت بشق الأنفس حتي مع اقترابها من القمة. فهل كان من الآمن أن يتوقف الدفع دون عمل شيء سوي التمني بأن يؤدي الزخم إلي إيصال هذه الصخرة إلي القمة؟.. أم هل ستتوقف هذه الصخرة ثم بعد ذلك تستدير ببطء علي نحو مخيف نحونا؟. الآن نحن نعلم أن الإجابة لا تكاد تكون مفاجأة. فالعراق هذه الأيام يعتبر دولة منهكة جدا, ولم تأت أي من مشاكلها من فراغ. وأضاف نايتس: لقد اجتمعت العديد من المؤشرات السلبية في العراق: فالمليشيات المدنية المسلحة تعيد نشاطها, والتفجيرات الانتقامية تستهدف المساجد السنية والشيعية, وبعض القوات العسكرية العراقية بدأت تنهار وتنقسم إلي عناصر عرقية وطائفية. كما بدأت قطاعات عديدة من الطيف السياسي العراقي- الأكراد والعرب السنة والشيعة- تتذمر بشأن عدم قدرة الحكومة علي التعامل مع الظلم السياسي أو الاقتصادي وبدأت تتحدث بجدية عن التقسيم. والآن تقع الحكومة العراقية في العديد من نفس الأخطاء التي وقعت فيها الولاياتالمتحدة, فهي تقوم بعزل السنة واحتلال مجتمعاتهم مع تبني نهج عسكري قاس لا يميز بين المحاربين المتطرفين وجمهور المدنيين المسالمين. وأكد نايتس: حاولت الحكومة العراقية إلقاء اللوم في فشلها علي الثورة السورية, بحجة أنها تعاني من امتداد العنف من جارتها.. وأوضح نايتس: يمكن القول إن المحرك الرئيسي للعنف في العراق هو الإفراط في مركزية سلطة بغداد, الذي جاء في وقت مبكر جدا وكان مشمولا بالذعر الطائفي. وكانت الولاياتالمتحدة تتحسب لهذا الخطر منذ البداية: فصيغة المحاصصة كانت حجر الزاوية للسياسة الأمريكية في العراق حتي عام2008, كما أن الولاياتالمتحدة تأكدت أيضا أن مبدأ اللامركزية الإدارية جري طبخه في الدستور العراقي. وقد عكست هذه السياسة حقيقة قوية, وهي أن العراق في مرحلة ما بعد صدام لم يكن جاهزا لنظام سياسي يقوم علي أن الفائز يفوز بكل شيء والخاسر يفقد كل شيء. ولكن في بداية عام2008, أعاد المالكي مركزية الحكم معولا في ذلك علي دائرة ضيقة بشكل متزايد من المعارضين الشيعة للنظام الديكتاتوري السابق, من ثم بدأ في إعادة بناء نسخة من النظام السلطوي, الذي سعي الشعب لإسقاطه علي مدار عقود. وباتت الدائرة المقربة من المالكي تهيمن علي اختيار القادة العسكريين وصولا إلي مستوي الألوية وتسيطر علي المحكمة الفيدرالية, كما سيطرت علي البنك المركزي, كذلك طمست السلطة التنفيذية بشكل سريع جميع الضوابط والموازين, التي وضعت قيد التنفيذ لضمان عدم ظهور حكم استبدادي جديد. وبالتالي, فإن جذور العنف العراقي لا ترجع إلي الأحقاد القديمة بين السنة والشيعة أو الأكراد والعرب, ولكن بين دعاة المركزية ودعاة اللامركزية, وبين أولئك الذين يرغبون في أن ترمي العراق ماضيها العنيف وراء ظهرها, وأولئك الذين صمموا علي استنساخه. ومن المحتمل أن يستمر العنف في العراق مادامت استمرت المغالاة في إعادة مركزية السلطة. هكذا بات واضحا أن إتباع المالكي لسياسة إعادة إنتاج تجربة صدام لم يسفر سوي عن المزيد من العنف, ومن ثم استمرار الأزمة ونزيف الدماء, وهو ما يتوافق وهدف إسرائيل الإستراتيجي في المنطقة, حيث عدم السماح للعراق بالعودة إلي ممارسة دوره الإقليمي مجددا, كذلك التأكيد علي أن العراق تلاشي كقوة عسكرية وكبلد متحد وان تحييده عن طريق تكريس أوضاعه الحالية يشكل أهمية قصوي لأمنها, وهو نفسه ما سبق التأكيد عليه من جانب وزير الأمن الإسرائيلي السابق آفي ديختر في محاضرة ألقاها في أحد مراكز الأبحاث, ونقلت نصها صحيفة الجيورزاليوم بوست, عقب الغزو الأمريكي للعراق مارس2003, حيث قوله: إننا قد حققنا في العراق أكثر مما خططنا له وتوقعناه منذ بداية عقد السبعينيات من القرن العشرين. هدفنا الإستراتيجي مازال عدم السماح لهذا البلد أن يعود إلي ممارسة دوره لأننا نحن أول المتضررين.. سيظل صراعنا علي هذه الساحة فاعلا. هذا فيما باتت تقف الولاياتالمتحدة حاليا كمتفرج فقط, ذلك فيما يظن البعض انها خطة أخري للضغط علي حكومة المالكي لكي تستنجد بها فتفرض عليها قطع العلاقات مع إيران وسوريا.. أو ربما استغلالها كوسيط في محادثات الملف النووي الإيراني, وإذا نجحت الشراكة الأمريكية مع المالكي مجددا فقد يحصل علي مكافأة تشكيل حكومة أغلبية سياسية لاحقا, إلا أن هذا التطور لا يمنع من تقسيم العراق, بل يعزز من سلطة قوي الشيعة, التي مازالت غافلة عن كونها المتضرر الأقوي من فكرة التقسيم, حيث إمكان تحول الكيانات الفيدرالية الكبيرة إلي دويلات صغيرة تتنازعها الصراعات الداخلية, ومن ثم تحول التقسيم إلي تفتيت, ذلك في ظل سيطرة المليشيات الطائفية علي المشهد, تلك التي تقود البلاد إلي دائرة من العنف والعنف المضاد, وهو ما بات يفرض علي مختلف الطوائف والكيانات السياسية ضرورة النظر إلي أبعاد الموقف الحالي, ثم انتهاز فرصة الانتخابات في2014 كفرصة ممكنة للبداية من جديد في عملية إعادة بناء عراق ما بعد صدام.