حين تتأمل أحوال كرتنا الأرضية ستتمني علي الفور أن تضعها علي أريكة الطبيب النفسي كي تعلن ضيقها مما يحدث عليها من أحوال أهل السياسة وتصرفات باعة الأوهام, وسوء سلوك استخدام الموارد البيئية وسيادة الأنانية الغبية في ضمائر من يبحثون عن زيادة الأرباح بأي ثمن, فها هم من يدعون الإيمان بالاقتصاد الحر يتجاهلون القواعد التي نادي بها مؤسس الاقتصاد الحر آدم سميث حين طالب بعدم الاكتناز للثروة, وأن يحاول كل ثري تشغيل الثروة فيما يخدم الواقع, ليقلل من بؤس البطالة, وكأن هؤلاء القادة المعاصرين لأفكار الاقتصاد الحر يحفرون لأنفسهم قبورا من الجمود, يتشابه بشكل أو بآخر مع تلك القبور التي حفرها لأنفسهم قادة الاقتصاد المخطط في المعسكر الاشتراكي السابق, فانهارت جدران المعبد الاشتراكي علي الرءوس لنري بين أنقاضها صورا من فساد لا يقل عن فساد عصور الأباطرة والقياصرة, ويكفي أن نتذكر مساوئ قصر واحد من قصور الحكم الاشتراكي وهو قصر شاوسيسكو برومانيا لنتذكر علي الفور أنه لا فارق بين جنونه وجنون نيرون, فكل منهما حرق كرامة الإنسان بنفس الأساليب. وعلي كثرة الكلام عن الديمقراطية, والعدالة الاجتماعية لا في منطقتنا وحدها, بل في أرجاء العالم, صارت صورة بئر متسعة الفوهة في مدينة سيراكوزا لا تغادر خيالي, فهذه البئر ينقسم ماؤها إلي قسمين متساويين, نصف المياه عذب, ونصف المياه مالح, ويقال: إن أحد القديسين الطبيين قد عاني من عطش شديد فدعا أن يجد الماء عذبا, واستجابت السماء لدعائه, فتفجرت تلك البئر أمامه بنصفها العذب, ويقال: إن واحدا من الجلادين أراد أن يروي عطشه بعد أن أرهقته هواية تعذيب العبيد, فمضي إلي البئر ليشرب, فتصلبت أقدامه عند نصف مياه البئر المالحة. وعلي بعد عدة كيلومترات من هذه البئر العجيبة توجد شجرة يوسفندي مزروعة في منخفض صخري لا تصلح زراعته, وقد أحاطت بلدية سيراكوزا هذا المنخفض الصخري بسور حديد عال كيلا يقع فيه أحد, وبرغم ذلك تجد إحدي هوايات الصبية من أهل سيراكوزا تسلق هذا السور الحديدي لالتقاط ثمار اليوسفي لالتهامها, وتجد من يشرح لك أن تلك الشجرة قد أمر بزراعتها واحد من أباطرة روما القديمة, ومن قام بزراعتها هم العديد من العبيد. وطبعا ستهمس لنفسك بما همست به لنفسي: إن الشعوب تخترع لنفسها أساطير تروج لظواهر تحتاج إلي جهد علمي لاكتشاف حقيقتها, وعندما تهمس لنفسك بذلك ستجد التفسير العلمي لحكاية البئر التي لا تختلط فيها المياه العذبة بالمياه المالحة, فاندفاع مياه البحر تحت سطح التربة يتوازي في القوة مع اندفاع المياه الجوفية العذبة, فصار من الطبيعي أن توجد المياه العذبة بجانب المياه المالحة دون ذوبان أو اختلاط أي منهما بالأخري, وستجد أيضا التفسير العلمي لنمو شجرة اليوسفي في قاع المنخفض الصخري, حيث توجد في قاع المنخفض تربة صالحة للزراعة, وحين وصلت إلي تلك البقعة بذرة من نبات اليوسفي نمت كشجرة, وألبسها أهل مدينة سيراكوزا المطلة علي البحر حكاية أسطورية تتناسب مع ما يرغب أهلها من إضفاء قداسة علي من استشهدوا من العبيد في عهد الأباطرة, تماما كما أضافوا قداسة علي مياه البئر التي لا تختلط فيها المياه المالحة بالمياه العذبة. والذي جعل كل تلك الحكايات تتفجر في خيالي هو المعرض الأخير للمواهب الشابة القادمة من خمسين مدرسة مصرية في أنحاء المحروسة, وهو معرض أقيم تحت أرض القبة السماوية التابعة لمكتبة الإسكندرية, وهي القبة التي تتوسط المسافة بين كورنيش الميناء الشرقي, ومبني الكليات النظرية لجامعة الإسكندرية, وتحت هذه القبة يأتي أصدقاء المنتدي التجريبي للعلوم التابع للمكتبة حيث تدير المهندسة هدي الميقاتي هذا المنتدي بدرجة من التفاؤل القائم علي الثقة في العقول المصرية الشابة, تجد بعضا من معلمي المواد العلمية بالمدارس الإعدادية والثانوية من يقبلون التدريب علي مناهج اكتشاف المواهب العلمية بين الطلبة, وتجد أيضا من الطلبة من يستطيعون مجاراة العصر الذي تنفجر فيه المخترعات العلمية بصورة غير مسبوقة علي مر التاريخ البشري. وأتوقف أمام ثلاث تجارب شديدة البساطة, وشديدة الإبهار أيضا, فها هو طالب في السابعة عشرة يقدم تصميما لبذلة نجاة لراكبي السفن التي يمكن أن تتعرض للغرق, وميزة هذه البذلة أنها مجهزة بجهاز إنذار يرسل إشارات تستطيع مراكز الإنقاذ في أي بقعة في الكون عن طريق الأقمار الصناعية من التقاطها, فضلا عن أن هذه البذلة قادرة علي الطفو فوق سطح المياه, وعلي صيانة حرارة جسم من يرتديها فلا تؤثر فيها برودة المياه., وتندهش حين تعلم أن المصمم الشاب لتلك البذلة قد عاني من مشهد والده الذي كان واحدا من ركاب العبارة السلام التي تعرضت للغرق في البحر الأحمر واستشهد فيها قرابة الألف وثلاثمائة راكب, وكان والد هذا الطالب هو واحد ممن تم إنقاذهم لكنه عاد الأب بعاهة في يده, فركز الشاب تفكيره في ضرورة وضع أسلوب عملي تطبيقي لصيانة الحياة, فكانت هذه البذلة, وبجانب هذا التصميم المدهش تجد تصميما آخر لا يقل عنه إدهاشا, وهو عبارة عن ثلاث حساسات توضع في مواقع مختلفة بملابس فاقد البصر, وتقوم تلك الحساسات بتنبيه فاقد البصر إلي ما يمكن أن يصطدم به, وتندهش أكثر حين تجد أن فكرة الحساسات تلك مأخوذة من السيارات الحديثة, وهي التي تنبه قائد السيارة إلي أن هناك ما يمكن أن يصطدم به, وفكر الشاب في نقل تلك الحساسات من السيارة إلي جهاز يمكنه مساعدة أي فاقد للبصر, فالإنسان أكثر أهمية وقيمة من أي سيارة مهما ارتفع ثمنها, أتوقف أمام الاختراع الثالث وهو عبارة عن قفاز يرتديه الأبكم الذي يعاني الصمم والخرس, وعادة ما يتقن هذا الأبكم لغة الإشارة, وهو حين يرتدي هذا القفاز ويحرك أصابعه داخله بتلك اللغة, فالقفاز يترجم إشارات أصابعه إلي لغة عربية مكتوبة علي شاشة صغيرة توجد علي صدر الأصم الأبكم. وتتوالي الاختراعات البسيطة لتضيء أعماق من يراها بربيع الأمل في مستقبل مختلف غير مزدحم بهذا الضجيج الزاعق الذي يبدو وكأنه غليان في فنجان الواقع, هذا الواقع غير اللافت إلي ما يضمه المستقبل من قدرات وإمكانات, ولعلنا نلتفت إلي قيمة ما في خيال الأجيال الشابة من تصورات تستخدم العلم لتطوير الحياة إلي الأفضل. شكرا مكتبة الإسكندرية علي تلك الشموع التي تنير الطريق وسط جحافل من ظلام اليأس تريد اغتيال الأمل في القلوب. المزيد من مقالات منير عامر