أصبحت روسيا مفتاح الحل ومحور التوافق الدولي في الأزمة السورية. إذ أن أي تغيير محتمل في مسار تلك الأزمة لابد أن يمر عبر' بوابة' موسكو وهو ما يبدو جليا في المبادرة التي طرحتها عقب التهديدات الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد لاتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في ريف دمشق في12 أغسطس الماضي, والتي هيأت المجال لتوقيع اتفاق روسي أمريكي بخصوص الأسلحة الكيماوية السورية في41 سبتمبر الحالي, وفي القرار رقم8112 الذي صدر عن مجلس الأمن في72 من الشهر نفسه, والذي تم التصويت عليه بالإجماع بعد التوصل إلي حل وسط بشأنه بين روسيا والولايات المتحدةالأمريكية. هنا لا يمكن اختزال مصالح روسيا في تبني موقف مناهض للغرب تجاه الأزمة السورية, في الحفاظ علي قاعدتها العسكرية في طرطوس, وإنقاذ أحد أكبر مستوردي أسلحتها في الشرق الأوسط. فرغم وجاهة هذه الاعتبارات, إلا أنها لا تبدو كافية لتفسير السياسة الجديدة التي تتبناها موسكو, التي يبدو أنها تسعي إلي استعادة دورها التقليدي كقوة دولية لا يمكن تجاهلها في عملية إعادة صياغة التوازنات الاستراتيجية, لا سيما إذا كانت في مناطق قريبة من حدودها علي غرار منطقة الشرق الأوسط. فضلا عن أنها تبدو قلقة من التداعيات التي يمكن أن تفرضها عودة المتشددين الذين شاركوا في الصراع السوري إلي بلادهم مرة أخري, بكل ما يفرضه ذلك من تداعيات سلبية علي أمنها واستقرارها, وعلي رأسها دول الكتلة السوفيتية السابقة, وهو ما يعكسه تحذير الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين من امتداد العنف إلي تلك الدول, مستندا في هذا السياق إلي الهجوم الإرهابي الذي وقع في كينيا مؤخرا. تحرك سريع نجحت المبادرة التي طرحتها روسيا الخاصة بالتخلص من الأسلحة الكيماوية السورية, في تجنيب نظام الأسد, ضربة عسكرية كان من الممكن أن تلحق به خسائر ليست هينة, في الوقت الذي يواجه ضغوطا قوية من جانب المعارضة المسلحة التي بدأت تحصل علي أسلحة نوعية, بمساعدة قوي إقليمية ودولية عديدة, لتحقيق مكاسب جديدة علي الأرض تستعيض بها عن الخسائر التي منيت بها في الأشهر الأخيرة. لكن الأهم من المبادرة نفسها هو ما فرضته من معطيات جديدة علي الأرض. أولها, أنها فتحت الباب أمام تفعيل الحل السياسي للأزمة السورية, بعد أن أدت إلي تأجيل الخيار العسكري, وهيأت المجال أمام إمكانية انعقاد مؤتمر' جنيف2', ربما في نوفمبر القادم حسب تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون, للوصول إلي تسوية سلمية للأزمة. وثانيها, أنها أكسبت نظام الأسد مزيدا من الوقت, بإعتباره الطرف المعني بتنفيذ القرار الذي صدر عن مجلس الأمن, علي الأقل حتي اتمام خارطة الطريق التي أعلنتها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتفكيك الترسانة السورية قبل منتصف العام القادم, وهي فترة يمكن أن يتم التوصل خلالها إلي تسوية سياسية. وثالثها, أنها أكدت قدرة روسيا علي التحول إلي رقم مهم في كثير من الملفات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط, بدليل فشل القوي الكبري في استصدار قرار واضح وقوي من مجلس الأمن يتيح استخدام القوة في حالة عدم تنفيذ الأسد لبنود القرار, حيث لم تتمكن هذه القوي من إقناع موسكو بضرورة استناد القرار بشكل واضح إلي الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة, وهو ما دفعها في النهاية إلي الوصول لحل وسط, يتيح الاستناد إلي' تدابير' بموجب الفصل السابع في حالة عدم الامتثال للقرار أو النقل غير المصرح به للأسلحة الكيماوية أو استخدامها' من قبل أي شخص' في سوريا, وهو ما يمنع الدول الغربية من استخدام الخيار العسكري بشكل مباشر في حالة حدوث ذلك, لأنها سوف تضطر للعودة إلي مجلس الأمن لاستصدار قرار جديد, ما يهيئ فرصة لموسكو في استخدام' الفيتو' من جديد في حالة ما إذا أرادت ذلك. هذه السياسة الروسية الجديدة تطرح دلالتين مهمتين: أولاهما, أن روسيا لا تريد تكرار' النموذج الليبي' في حالة سوريا, عندما وافقت علي القرارين0791 و3791, اللذين اتهمت الغرب بانتهاكهما, وهو ما دفعها منذ أكتوبر1102, إلي استخدام حق' الفيتو' ثلاثة مرات لمنع استصدار قرارات إدانة من مجلس الأمن ضد النظام السوري, ما فرض توترا حادا في علاقاتها مع القوي الكبري. بما يعني أن روسيا لا تثق كثيرا في نوايا هذه القوي التي كان من الممكن أن تستخدم أي قرار يستند بشكل واضح للفصل السابع في شن عملية عسكرية ضد سوريا. وثانيتهما, أن روسيا ربما لا تثق أيضا, وللمفارقة في جدية نظام الأسد في تنفيذ القرار, بشكل دفعها إلي التهديد بأن مجلس الأمن سوف يعاقب مخالفي القرار8112, وهو ما يمكن تفسيره في أن روسيا تريد توسيع' مروحة الخيارات' المتاحة أمامها في حالة ما إذا واجهت عملية تنفيذ القرار عقبات, بما يعني أنها لا تريد منح الغرب والأسد معا هامشا واسعا من الحركة أو المناورة بعيدا عن رؤيتها ومصالحها. وعلي ضوء ذلك, يمكن القول إن صدور القرار8112 ليس نهاية المطاف, إذ أن نزع الأسلحة الكيماوية السورية, الذي كان أحد تداعيات المبادرة الروسية, يبدو مهمة محفوفة بالمخاطر, وهو ما يعني الأزمة السورية بقدر ما وفرت فرصة لموسكو لتأكيد تحولها إلي رقم مهم لا يمكن تجاهله علي الساحة الدولية, بقدر ما يمكن أن تفرض تحديات أمامها, في حالة ما إذا فشلت' صفقة الكيماوي', وهو احتمال يمكن أن يعيد ترتيب المشهد المعقد في الصراع السوري من جديد.