حينما كتب فرنسيس فوكوياما كتابه نهاية التاريخ في بداية الألفية الثالثة ارتاح الغرب لمقولته الأساسية المتعلقة بوصول التقدم البشري إلي نهايته, والتبشير بأن الأفكار الأيديولوجية في التاريخ الإنساني قد وصلت إلي حدها النهائي بانتشار قيم الليبرالية والديمقراطية الغربية وسيادتها بين مناطق وأقاليم العالم الأخري. وساعد علي هذا الاعتقاد خلو العالم من وجود قوي أخري تناطح السيادة الأمريكية الأوروبية أو حتي تستطيع أن تنافس نفوذهما في أي من مناطق العالم إثر انهيار الاتحاد السوفيتي وما مثله من انهيار للأيديولوجية الشيوعية التي استند عليها. لذا فقد بدا أن العالم قد رضخ للهيمنة الغربية علي مقدراته بما يملكه الغرب من نفوذ سياسي وقوة اقتصادية وعسكرية يستطيع بها أن يفرض السيادة لأفكاره ومبادئه وقيمه. ولأن الرياح دائما تأتي بما لا تشتهي السفن إذا ما استكانت لحالها ولم تحسب حساب حتمية التغير في الظروف المحيطة كنظام كوني ثابت في الحياة الإنسانية, فإن السنوات التالية من القرن الحادي والعشرين قد حملت العديد من الأحداث التي شكلت تحديا صارخا لمقولات فوكوياما, حيث نهضت اقتصاديا قوي إقليمية جديدة مثل البرازيل وماليزيا إلي جانب الصين والهند من قبل متبعة في نموها سياسات غير تقليدية لا تنتمي للنظريات الغربية الرأسمالية, كما تحدث إيران ومن قبلها روسيا النظام الغربي سياسيا. ولعل أخطر التحديات التي واجهت النظام الغربي في العقد الثاني من هذا القرن كانت بلا جدال هي تلك المتمثلة في ثورات الربيع العربي التي قلبت أنظمة كانت راسخة في الحكم وأيضا في ولائها للغرب, الأمر الذي أربك ردود الفعل الغربية تجاهها في بداياتها إلي حد كبير. ولكن سرعان ما عاد الغرب إلي سياسته الاستعمارية القديمة باتباع منهج فرق تسد الذي جبل علي استخدامه في تفتيت القوي الوطنية المناوئة لنفوذه في المنطقة, وقامر علي التحالف مع ما يسمي بقوي الإسلام السياسي لإقامة نظم جديدة يضمن ولاءها وتنفيذها لمخططاته في إقامة الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونز اليزا رايس. ثم جاءت ثورة الثلاثين من يونيو 2013 في مصر لتصبح نقطة تحول جذرية في مصير المنطقة بإزاحتها حكم جماعة الإخوان المسلمين وبتصميم شعبي علي رفض الفكر الواقف وراءها بعد أن تم فضخ نواياه الخفية وأيضا عمالته للغرب, لتصبح الثورة المصرية بداية النهاية لهذه الجماعة وفكرها كما كانت مصر من قبل منبتها والتربة الخصبة لنموها وانتشارها فيما بعد إلي باقي العالم الإسلامي. وبذلك وجهت هذه الثورة ضربة قوية للمخطط الغربي في تقسيم مصر والمنطقة بأسرها إلي دويلات ضعيفة. ولعل ذلك ما يفسر ردود الفعل الغربية التي رأت في الثورة انقلابا عسكريا, وسعت بكل قوتها الدبلوماسية والإعلامية إلي مساندة الرئيس المعزول ونظامه الإخواني وتحدي الإرادة الشعبية الكاسحة في تحرير مصر من حكمهما والتي كانت واضحة جلية وضوح الشمس. ولم يكن الغرب هنا يدافع فقط عن خططه المهددة بالفشل في المنطقة, وإنما أدرك أن سطوته علي العالم وهيمنته علي مقدرات الشعوب الأخري والتي تمتع بها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي تواجه تحديا مصيريا, وأن ما بشر به فوكوياما من هيمنه الفكر الغربي الرأسمالي إلي أبد الآبدين قد يثبت للعالم كونه وهما لا يمت للواقع بصلة. فقد مثلت ثورات الربيع العربي بموجاتها الأولي والثانية في جوهرها رغبة أكيدة للإنسان العربي في رسم طريق جديد يسير فيه من أجل تحقيق آماله في العيش الكريم وفي العدل الاجتماعي وفي التحرر من قبضة الهيمنة الغربية علي مقدراته. وكان تهاوي حكم الإخوان وسقوطه سقوطا مدويا في مصر قد ترك تداعيات أثرت علي مصير أقرانه في المنطقة وولد رغبة عارمة في بلاد الربيع العربي الأخري في التخلص من حكم تلك الجماعة بعد أن كشف عن وجهها القبيح وتواطؤها مع المخطط الغربي كثمن لتحقيق أطماعها. وهكذا فإن السعي الغربي الحثيث نحو الدفاع عن وجوده وهيمنته في المنطقة بتحدي إرادة الشعوب في اختيار مصيرها ومستقبلها يقابله أيضا إصرار شعبي أصيل في تحقيق الحرية والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية, الأمر الذي كشف كل أوراق اللعب في المنطقة أمام العالم. ويمكن النظر إلي الاستنكار الشعبي في الولاياتالمتحدة ورفض بعض البرلمانات الأوروبية توجيه ضربة عسكرية لسوريا بزعم استخدام النظام الحاكم بها الأسلحة الكيماوية كصورة من صور فضح النوايا الحقيقية للنظم الغربية أمام شعوبها, مهما حاولت أن تغلف ذلك بدعاوي الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر قيم الديمقراطية الغربية. ولعل ذلك الأثر هو الأكثر خطورة من نتائج الثورة المصرية, فالقيم والأفكار والمفاهيم التي قامت علي أساسها الحضارة الغربية لم تعد هي السبيل الوحيد أو خارطة الطريق الوحيدة أمام الشعوب الأخري لتتبناها بحثا عن تحقيق آمالها الوطنية, وأن ما يروج له الغرب من حقوقه في الدفاع عن تلك القيم إذا ما رأي بحسب معاييره تهديدا لها ومحاولة فرضه لها بالقوة قد غدا غير مقبول بين قطاعات غير قليلة من الرأي العام الغربي ذاته, الأمر الذي قد ينظر إليه في إطار تحولات عميقة تجري في النظام العالمي, ليس فقط ببدايات العودة إلي مناخ الحرب الباردة بعد عودة الوجود الروسي القوي علي الساحة الدولية, وتكتل القوي الإقليمية من أجل حماية بعضها البعض, وإنما أيضا بتراجع مشهود في القناعة العالمية بحقوق الغرب في فرض قيمه ومعاييره التي تحكم عملية الحرب والسلام العالمي, والتي تؤثر أيضا علي وضعه ومركزه كلاعب أوحد في السياسة الدولية. والسؤال الذي يطرح نفسه بالتبعية هو هل يدرك صانع القرار المصري حجم الدور الذي تمثله الثورة المصرية وآثارها الإقليمية والعالمية, وأن مصر التي وضعت نهاية الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس بثورة 1952 ثم بصمودها في حرب 1956 تؤثر الآن وبعد ما يزيد علي نصف قرن علي انفراد الغرب بالمشهد السياسي العالمي وتعامله مع العالم العربي كقطع شطرنج يحركها وفقا لمشروعه الشرق الأوسط الكبير؟ إن إدراك التبعات الدولية والإقليمية المترتبة علي حركة الشعب المصري يفرض علي من يمسك بزمام الأمور في مصر مزيدا من اليقظة تجاه رد الفعل الدولي, وإنما قبل كل هذا وبعده فإنه يفرض عليه التزاما أمام هذا الشعب بالارتقاء إلي مستوي طموحاته من أجل العيش في وطن يتمتع بالعزة والكرامة والعدل الاجتماعي. فلا يليق بمن يتولي الحكم في مصر بعد ثورتين متتاليتين ألا يرتقي لمستوي التضحيات التي بذلها هذا الشعب عبر عقود طويلة تحمل فيها بصبر سياسات خاطئة أدت بمصر إلي ما هي فيها الآن من فقر وتخلف, ومن ثم فإنه لا ينبغي الآن أن تستمر هذه الأوضاع بعد انتفاض هذا الشعب مرتين رفضا لتكرار تلك السياسات وفشل القيادات التي اعتلت سدة الحكم في تلبية طموحاته. لذا فإنه من غير المقبول أن تأتي هذه الثورات بأنظمة تدور في فلك الفكر الغربي ومعاييره التي تجاوزها الشعب المصري ووضعها محل المراجعة والفحص أمام العالم متحديا النظريات التي تعتبر الفكر الرأسمالي نهاية للتاريخ, كما لا يجوز أن تكون المرجعية الغربية ورضا الأنظمة الحاكمة هناك هي غاية الحكم في مصر بعد الثورة, بدلا من أن, يضع نصب عينيه مطالب وطموحات شعبه المشروعة التي لم ولن يتنازل عنها مهما تكبد من تضحيات. فهل يعي من يملك صناعة القرار هذه اللحظات التاريخية التي يعيشها الشعب المصري فيرتقي إلي مستوي الإسهام في تغيير مسار التاريخ؟. لمزيد من مقالات د.نجوى الفوال