لرسائل الأدباء قيمة كبيرة في كل الآداب, لاتتوافر لغيرها من الكتابات, بما فيها المذكرات والحوارات والسير الذاتية. ذلك أن الرسائل تكتب عادة بتلقائية, وبلا رقابة من أحد, ويتعرف منها القراء علي شخصيات حقيقية, قرأوا لها وعاشوا معها, وأصبح من المثير أن يلتقوا بها عبر هذه الأوراق والقصاصات الخاصة جدا التي لم يكن أحد من كتابها يتصور أن الأيدي ستتداولها في يوم من الأيام, وتفشي أسرارها علي الملأ. ويهتم النقاد بهذه الوسائل كوثائق أدبية وشهادات تساعد علي فهم انتاج أصحابها, ويقبل عليها القراء لما تنطوي عليه من خصوصيات وأفكار ومشاعر, تعبر ضمنا عن أحوال العصر وأخلاقه, وتكمل أيضا ماغاب أو اندثر منها. ورسائل الكاتب الراحل عبدالحكيم قاسم(1935 1997), التي جمعها وحررها محمد شعير, وصدرت عن دار ميريت, تكشف عن شخصية أدبية نابهة, صافية الذهن, مفعمة بالفطنة والحيوية, تملك موهبة أصيلة, لا تنفصل فيها طبيعته الخاصة عن الطبيعة العامة, وتعد, برأي نقاد الحداثة, من المواهب النادرة في تاريخ الثقافة المصرية المعاصرة, التي أنفرد فيها عبدالحكيم قاسم, بين كتاب جيله, بهذه القدرة الفذة علي حمل هم الكتابة, وعلي تصوير الريف المصري بكل مافي أرضه وأهله من فتنة, وبكل مايتقلب فيه من معتقدات وفروق طبقية, وهي آفة لم تستطيع مصر أن تتخلص منها قط, وتحقق العدل في توزيع الثروة القومية. ورغم ماتتعرض له القرية المصرية من عناء وشر, فإنها تحتفظ دائما, في أدب عبدالحكيم قاسم, بقوتها الذاتية الكامنة, التي تحميها من التصدع والسقوط. كتب عبدالحكيم قاسم هذه الرسائل إلي أصدقائه وشقيقه عبدالمنعم قاسم من برلين, في سنوات الغربة التي دفع إليها دفعا, واستغرقت من عمره أكثر من عشر سنين, من1974 إلي1985, لم تكن حياته خلالها تخلو من الضيقات التي أدت إلي مرضه, وأفضي به المرض إلي الكآبة والاحباط النفسي الذي لمسه كل من كان علي صلة به في أيامه الأخيرة في القاهرة. وأثناء هذه الغربة بدأ عبدالحكيم قاسم إعداد رسالة دكتوراه باللغة العربية عن الأدب المصري المعاصر, خاطب من أجلها الأصدقاء في مصر, وجمع المراجع, وسجل علي الجزازات أعمال جيل الستينيات من كتاب القصة, الذين تعرضوا في منازعاتهم للاصطدام بالسلطة, ولم يجدوا مفرا, في رحي المعارك, من الهجرة خارج الوطن. وكان أهم ماخرج به عبدالحكيم قاسم من هذه التجربة أنه وضع يده بدقة علي المجتمعات والحضارة الأوروبية, من خلف سحبها الكثيفة الباردة, وأيقن بما لايدع مجالا للشك أن مكانه الصحيح, ومكان كل الطيور المهاجرة مثله, لايكون إلا تحت سماء بلاده, وفي حياتها الثقافية العقلانية, مهما كانت المصاعب التي يواجهونها من هذه السلطة. ولا يعرف أحد شيئا عن هذه الرسالة العلمية, لأنها لم تتم, وإلا لخرجت إلي الأسواق في كتاب عن دار ميريت أو غيرها من الدور المنحازة للأدب الجديدة. وعبدالحكيم قاسم يعني بالحياة الثقافية الحياة الجدلية التي تتخطي الأشكال التقليدية, ولاتنفصل فيها الثقافة عن السياسة, ولا الجانب النفسي عن الاجتماعي, وليس لأواسط الناس الذين لاينخرطون في السياق العام موضع فيها. وإذا كانت رسائل الأدباء لاتقتصر علي العصور الحديثة, فإنها, في التراث العربي, تضرب في القدم, بما يعرف بالاخوانيات التي يتساوي فيها الأفراد, ولو ان المخاطب الخليفة نفسه. ورسائل الاخوانيات هذه تختلف عن الرسائل الرسمية التي كان كتاب الانشاء يكتبونها في ديوان الرسائل, غير أن اهتمام القدماء بجماليات الأداء ووضوحه, في هذه الرسائل, وتضمينها بالحكمة والموعظة, كان شائعا فيما حفظته منها الكتب القديمة والمخطوطات. أما رسائل عبدالحكيم قاسم فإنها تفصح عن زمن آخر وحضارة أخري, وعن شخصية مختلفة تعلقت من طفولتها بالقراءة, وأخلصت للحرف, وتحمست للعديد من الأدباء المغمورين قبل أن تلمع أسماؤهم, وكان جريئا في تعامله مع هؤلاء الأدباء, وأصابه الخذلان في حياته وأحلامه نتيجة عدم التواؤم بينه وبين العالم الذي يعيش فيه. وعدم التواؤم لا ينحصر في الظرف التاريخي بل يمتد إلي الحركة الأدبية التي لم تسلم من أزمة النشر, ومن احتقار الأدب والأدباء, ومن تصدر أسماء دجالين في مؤسسات الدولة الرسمية, يرجي منهم الأمان يذكرهم عبدالحكيم قاسم في رسائله بالاسم. ويذكر مآخذه عليهم, بما يشف عن ناقد متمكن, له نهجه الخاص, كان يمكن لو أنه اشتغل بالنقد أن يطرح معايير فنية جديدة, في ضوء الأدب الغربي الذي يراه عبدالحكيم قاسم واجهة الأدب في العالم, كما كانت الشعوب في الماضي تقيس تقدمها وسياستها من زاوية الحضارة الأوروبية. ومن جهة مقابلة فإن عبدالحكيم قاسم لايعفي أدباء جيله من النقد. ورغم وضوح مواهبهم وسلامة رؤيتهم للواقع والفن, فمن أخطائهم التصاقهم بالنظام, علي شاكلة التصاق أهل العمامة بالسلاطين, والوقوف بعيدا عن جمهور القراء, وافتقادهم الوعي الدقيق بالعالم, والحس المرهف بما فيه من أشياء جميلة ولو كانت بسيطة تافهة, مثل عقد علاقة عابرة مع امرأة, أو ركوب قطار يخترق الغابات, أو تناول وجبة طعام شهية..