في مؤتمر وزارة الثقافة الذي عقد الثلاثاء الماضي بدار الأوبرا لشرح أبعاد المشهد في مصر لمثقفي العالم وصف الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي و عدد من المتحدثين ما تشهده مصر بأنه صراع علي الهوية المصرية ومقاومة للإرهاب وأشكال الفاشية التي تقمع الإبداع وحرية التعبير وتغييب العقل و تغليب التطرف و التعصب بما يهدد بتشويه ملامح الشخصية المصرية. ورغم أن الموقف العصيب الذي يشهده المجتمع المصري, خاصة مع تصاعد موجات العنف و سفك الدماء و التمثيل بالضحايا و الجثث( وهو الأمر الذي لم يعرفه التاريخ المصري من قبل في حدود علمي), قد حظي بكم لا يستهان به من التحليلات السياسية والاستراتيجية, فإن كل هذه الأطروحات أغفلت كالعادة البعد الثقافي للأزمة!! و الحقيقة أن محاولة قراءة المشهد الحالي من منظور سياسي بحت يعد نوعا من الاختزال الشائن. فإهمال البعد الثقافي و إقصاؤه نهائيا عن كل ما يدور علي الأرض يلقي بالمجتمع ككل في دائرة مفرغة لن تؤدي بنا فقط للعجز عن الوصول لأسباب المشكلة وبالتالي حلها, بل أيضا لتكرر ظهورها في المستقبل و إن اختلفت التفاصيل و الملابسات لنظل إلي ما لا نهاية في المربع صفر. وفي تصوري أن الجرم الحقيقي الذي ارتكب بحق هذا الشعب العريق علي مدي عقود طويلة كان محاولة تغييب العقل و تجريف الوعي المصري سواء من خلال إفشاء ثقافة التيك أواي عبر وسائل الإعلام مقابل تقليص الخدمات الثقافية خاصة في الأقاليم ليصل نصيب الفرد منها سنويا لأقل من جنيهين( طبقا لأحد التقارير الصادرة من جهات بحثية) أو التكريس للعزلة بين المثقفين و الشارع المصري(والذي اعترف أن عددا من المثقفين شاركوا فيه عن عمد أو بجهل وربما تعال أو سعي وراء مصالح فردية) و عبر مناهج تعليم تعتمد علي التلقين و الحفظ وتقتل ملكة الإبداع و التفكير والنقد التي ميز الله بها الإنسان. و يضاف لكل ما سبق ترهل المؤسسات الثقافية و تراجع دور الأزهر و المؤسسات الدينية في الشارع ليصبح المواطن فريسة سهلة للمدعين أو من لم يعرفوا من العلم إلا قشوره.. ولقد أثبتت الدراسات أن الثقافة معامل رئيسي في ضبط التفاعل الاجتماعي, وفي توجيه سلوكيات البشر في مختلف المجالات و تشكيل الواقع الاجتماعي. فالثقافة في حقيقتها مجموعة من المعاني والرموز, تتبلور لتشكل منظومات القيم التي توجه سلوكيات البشر في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية, سواء كانت سوية أو منحرفة. ومن المعروف أنه علي مدي أكثر من نصف قرن شهد المجتمع المصري علي أرض الواقع تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تركت بصمة واضحة عليه وأن هذه التحولات المتناقضة أسفرت عن حالة من الهشاشة الثقافية باتت تهدد الثوابت و منظومة القيم المستقرة في خزانة وعي المصريين منذ آلاف السنين و تشل قدرته علي أن يعيد إنتاجها من خلال تفاعل اجتماعي معاصر أهم أدواته ملكة التفكير و إعمال العقل والنقد. و الحقيقة أن ما نعايشة اليوم من أحداث دامية ومؤامرات تستهدف كيان أمة و أمن شعب و تنذر بمحاولة تشويه ملامح الشخصية المصرية و فقدان الثقافة المصرية لتماسكها وقوتها التاريخية, تفرض علينا جميعا مراجعة آليات العمل الثقافي للخروج به من أسر الجدل و المناقشات وراء الجدران المغلقة والوصول به للمواطن العادي في أبعد قرية أو نجع علي الحدود.. و عليه فها نحن اليوم نفتح صفحة من ملف الثقافة المصرية عنوانها الجمعيات الأدبية لنعرف ما لها وما عليها...