كما يقرر أهل العلم أن الإسلام اعتمد في بنائه لخير أمة أخرجت للناس, علي دعامتين هما العقل والعمل..وإذا كنا قد ناقشنا دور العقل وأهميته في الإسلام في حلقة سابقة, فماذا عن العمل؟.. وكيف ينظر إليه الإسلام ويوليه الكثير من تقديره واهتمامه؟ أو بمعني آخر ما هي مكانة هذا العمل في القرآن الكريم, والأحاديث النبوية الشريفة وممارسات السلف الصالح من صحابة وتابعين وعلماء؟ وللإجابة عن ذلك علينا أن نسجل أن القرآن الكريم حين أكد قيمة العمل,, وكرر الإشارة اليه في صيغ غير محدودة, فإنه يدل دلالة قاطعة علي أن القرآن الكريم كدستور ومنهاج قد أولي عناية وتقديرا لهذا العمل, فهذا الكتاب في حديثه عن العمل يريد من المسلم حركة دائمة تطبق كل ما يعقله ويفعله ان كان خيرا فلنفسه, وإن كان شرا فعليها في قوله تعالي: وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون, وستردون الي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. لقد بلغ تقدير العمل الذي يدعو إليه الله عز وجل في كتابه الكريم أن الإيمان متبوع بالعمل الصالح في آيات منها من آمن بالله واليوم الآخر, وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله تعالي: من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.. وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تدعو دعوة صريحة إلي العمل وتحث عليه, سعيا وراءه, حتي لا يتواكل المسلم أو يتكاسل, فيتأخر ويتخلف عن غيره. واعتماده علي الايمان والعبادة, وقد بلغ عدد هذه الآيات التي تدعو الي العمل كما يذكر المفكر الإسلامي عبد الرزاق نوفل358 آية, كلها تمجيد للعمل وتعظيم لمكانته, ودعوة إليه. وذلك أن القرآن الكريم حين يهتم بالعمل فإنه يهتم بكل ما من شأنه أن يقدم هذا العمل ويجعله مثمرا, فمثلا يخصص للعمل جانبا من يوم المسلم يسبقه بقسط من الراحة التي تتيح لهذا العمل الاستمرارية مع الإجادة التي تضمن عملا منتجا في قوله تعالي: هو الذي جعل لكم الليل لباسا, والنوم سباتا, وجعل النهار نشورا بل وبلغ اهتمام القرآن الكريم بالعمل حدا أنه أمرنا بالقيام به حتي في يوم من أيام المسلمين وهو يوم الجمعة, بشرط أ ن تؤدي فريضة الجمعة بعدها نعود الي عملنا لا أن نعتمد علي ما أديناه من عبادة متمثلة في فريضة الجمعة في قوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الي ذكر الله, وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله, واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون. كذلك جعل القرآن العمل أساس الجزاء, وميزان التقدير في قوله تعالي: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وقوله: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. كذلك كانت نظرة الرسول صلي الله عليه وسلم إلي العمل عظيمة, فقد أعطي من نفسه ومن آله وصحابته رضوان الله عليهم القدوة والمثل. فمن نفسه حيث كان يعمل ويجاهد في سبيل الله, ولم يرتكن علي أنه رسول الله, وكان نصيبه في ذلك لا يقل عن نصيب أي من الأفراد وفي ذلك يحدثنا كتاب نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز أن النبي الكريم كان علي سفر فأمر بإصلاح شاه. فقال أحد الموجودين علي ذبحها, وقال آخر علي سلخها, وقال ثالث علي طبخها, فقال رسول الله وعلي جمع الحطب رغم اعتراض الجميع. كذلك أوصي أهله وذريته أن يعملوا, فلا يعتمدون عي قرابة أو شفاعة فقال عليه الصلاة والسلام لأهله.: يا آل محمد لا يأتيني الناس بالأعمال,,, وتأتوني بالأنساب, وقال لابنته فاطمة الزهراء: يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا. كما أوصي صحابته بالاهتمام بالعمل: فقد روي أن الصحابة أطروا رفيقا لهم في سفر ومدحوه, كان لا يعمل سوي تلاوة الأدعية ما دام راكبا, وإقامة الصلاة عندما كانوا ينزلون. فسألهم الرسول صلي الله عليه وسلم: فمن كان يكفيه علف بعيره, وإصلاح طعامه؟ فقالوا أي الصحابة كلنا: فقال الرسول الكريم: فكلكم خير منه. والأحاديث الشريفة التي وردت في شأن العمل وتقديره كثيرة منها قوله صلي الله عليه وسلم: ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده, وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده. ولهذا ليست مصادفة أن ينال العمل وقيمته اهتماما من العلماء بعد ذلك. فلو أمعنا النظر في الأفكار, التي طرحها علي سبيل المثال لا الحصر عبد الرحمن بن خلدون, وقارناها بغيرها من أفكار العلماء الأوروبيين, لأمكن أن نكتشف أن أفكار ابن خلدون كانت تستبق أفكار هؤلاء الأوروبيين من علماء الاقتصاد الذين جاءوا بعده بقرون. اعلم أن الانسان مفتقر الطبع الي ما يغذيه ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه الي شبابه إلي كبره. فالإنسان متي سعي الي اقتناء المكاسب لينفق مما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته.. الي أن يقول: فلابد من الأعمال الانسانية في كل مكسوب.. ولابد فيه من العمل الانساني كما نراه وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع: فابن خلدون هنا يحدثنا عن أن الانسان مضطر الي إشباع حاجاته وضروراته عن طريق العمل وهذا هو عين ما يحدثنا به كارل ماركس عن قيمة العمل بكتابه رأس المال. ومتي ؟ بعد عدة قرون. فإذا كان هذا هو تقدير واهتمام الإسلام بالعمل.. فلماذا ينفق بعض أبنائه أوقاتهم فيما لا يجدي ولا ينفع؟!, ليتنا نعمل, ولا نتواكل أو نتحجج حتي نبني أمتنا من ناتج عملنا.