تعتبر الابتهالات والتواشيح الدينية ظاهرة مصرية أصيلة ضاربة بجذورها في أعماق تاريخ المصريين,بحيث لا احد يستطيع ان يحدد متي ظهر هذا الفن علي وجه الدقة وما ذاك الا لانه فن ارتبط بوجدانات المصريين علي مختلف العصور وتلون بلون كل عصر علي حدة,حتي اصبح مظهرا من مظاهر العبادة, ولونا من الوان الطاعة و التقرب الي الله تعالي بطرق مختلفة وأساليب متنوعة,جعلت منه علما مصريا خالصا بدأ في ارض الكنانة وفيها ترعرع والي غيرها من الدول الاخري اتسع وانتشر. فمن منا يستطيع ان ينسي صوت الشيخ سيد النقشبندي,او طه الفشني, او علي محمود,اونصر الدين طوبار, او محمد الطوخي, او ابراهيم الفران,وهم يبتهلون الي الله ويهيمون شوقا وحبا في مدح رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي آل بيته والصحابة الكرام,وقد اصبحوا اعلاما ومدارس في هذا الفن, مما حدا بجميع الدول العربية والاسلامية الي انشاء مدارس في بلادهم تحمل اسماء هؤلاء الأعلام لتعليم طريقة ادائهم مثل سوريا وايران واندونيسيا وماليزيا, مما جعل هذا الفن بمثابة القوة الناعمة في الدعوة الي الله تعالي وخير سفير لنشر تعاليم الدين الإسلامي الوسطي في كل دول العالم, وقد دخل بسبب ذلك الفن كثير من الناس- خاصة في الدول الغربية- إلي دين الله أفواجا. ويقول الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق,إن مدح الأمة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم دليل علي محبتها له, وهذه المحبة تعد أصلا من أصول الإيمان, قال تعالي:قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتي يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين, وقال صلي الله عليه وآله وسلم: فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من والده وولده رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وقال أيضا: لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقد عرف العلماء المديح النبوي بأنه: هو الشعر الذي ينصب علي مدح النبي صلي الله عليه وآله وسلم بتعداد صفاته الخلقية والخلقية, وإظهار الشوق لرؤيته, ولزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياته صلي الله عليه وآله وسلم, مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية, ونظم سيرته, والإشادة بغزواته وصفاته المثلي, والصلاة عليه تقديرا وتعظيما, فهو شعر صادق بعيد عن التزلف والتكسب, ويرجي به التقرب إلي الله عز وجل, ومهما وصفه الواصفون فلن يوفوه حقه صلي الله عليه وآله وسلم. والمديح النبوي مشروع بعموم أدلة القرآن الكريم; كقوله تعالي: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا, والتعزير هو التعظيم. ومدحه صلي الله عليه وآله وسلم من مظاهر تعظيمه وحبه. وبمشروعية مدح رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم جاءت السنة النبوية نصا وإقرارا:فروي الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله, إني قد مدحت الله بمدحة ومدحتك بأخري, فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: هات وابدأ بمدحة الله عز وجل. وممن مدح النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الصحابة: حسان بن ثابت, وكعب بن مالك, وكعب بن زهير, وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم, وقد أقرهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم, بل وأحب ذلك ودعا لمادحه, وكسا كعب بن زهير بن أبي سلمي بردته الشريفة مكافأة له علي مدحه, ولم ينهه عن ذلك ولا عن إنشاده في المسجد. وأكد الدكتور علي جمعة ان المدائح النبوية سنة نبوية كريمة درج عليها المسلمون سلفا وخلفا, وليس صحيحا ما يروج له من أن المديح النبوي فن مستحدث لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري مع الإمام البوصيري رحمه الله تعالي, والقول إنه بدعة قول مبتدع لم يعرفه المسلمون إلا في هذا العصر, بل المديح النبوي سنة هجرها كثير من أهل هذا الزمان, والساعي في إحيائها داخل في قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: من أحيا سنتي فقد أحبني, ومن أحبني كان معي في الجنة وفي نسخة: من أحيا سنتي فقد أحياني, ومن أحياني كان معي في الجنة أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. تاريخ ومعني الابتهال وحول تعريف وتاريخ نشأة الابتهالات الدينية يقول الدكتورعطية مصطفي استاذ الدعوة والثقافة الاسلامية بكلية اصول الدين في جامعة الازهر ان الابتهال فن مصري خالص ارتبط بحب الله وبالصفاء الروحي والسمو بالذات,مشيرا الي ان المؤرخين قد اختلفوا في نشأة الابتهال كتراث شعبي لتعدد الرؤي حول جذوره,حيث أرجعه البعض للعصر الفرعوني, والبعض للعهد الفاطمي. وأما عن تعريف الابتهال فيقول الدكتور عطية إن كلمة ابتهال تعني في المعاجم: الإخلاص في الدعاء, وهو لون فني ضارب بجذوره في التراث المصري, موضحا ان الابتهال ظاهرة مصرية أصيلة راسخة في وجدان المصريين منذ العصور القديمة كاحتفالات الآلهة رع وآمون وإيزيس التي صورتها لنا جدران المعابد بالتفصيل لنشاهد فيها حاملي الأعلام والعازفين والمنشدين بمصاحبة مجموعات موسيقية. برديات فرعونية تصور الابتهال الي الله ويتفق الدكتورعلوي أمين خليل استاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر والدارس لعلم البرديات مع ماسبق, مؤكدا أنه وجد في كثير من البرديات نصوصا دينية تحمل الدعاء والابتهال إلي الإله الخاص بكل حقبة. ويضيف: أن فلسفة وثقافة الابتهال كتراث شعبي ممتدة من العصور القديمة, كما وجد ذلك في المعبد القديم, ولكن اصطبغت تلك الفلسفة بصبغة كل دين ظهر علي أرض مصر, وحينما جاء الإسلام تبلورت ودخلت في فلسفته, وعلي ذلك فإن فن المدح والابتهال كان موجودا منذ عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم تطور بعد ذلك وتعددت أشكاله مثل التي نراها اليوم. ويقول الدكتور احمد عمر هاشم رئيس جامعة الازهر الاسبق وعضو هيئة كبار العلماء:ان فن الابتهالات والمدائح النبوية اسهم بشكل كبير في المحافظة ونقل وانتشار قواعد وعلوم اللغة العربية في الغرب, وايضا الموروثات الثقافية الاسلامية المتوارثة عبر الأجيال المختلفة,مشيرا الي أن أشهر الموروثات الثقافية التي تداولها المنشدون والمبتهلون والمداحون المسماة ببردة المديح,مشيرا الي ان أول بردة كانت في تاريخ التراث الصوفي تلك التي كتبها كعب بن زهير, وذلك عندما عاد من الكفر إلي الإسلام وأنشد قصيدته التي أعجب بها النبي صلي الله عليه وسلم حتي خلع عليه بردته وأعطاه إياها تعبيرا عن تقديره لشعره ولذلك سميت بالبردة, ثم كانت البردة الثانية للامام البوصيري وهي مشهورة ومحفوظة لدي العوام من الناس,وقد كان هذا الإمام مريضا بمرض الفالج أي الشلل النصفي فظل يمدح رسول الله صلي الله عليه وسلم بمدائح كثيرة حتي رأي في المنام أنه واقف بين يدي الرسول ينشده تلك القصيدة فألقي عليه الرسول بردته فمن الله عليه بالشفاء ولذلك سميت بالبرءة وأيضا سميت بالبردة,وافضل من تغني بها وانشدها وساعد في نشرها في كل دول العالم هو الشيخ عبد العظيم العطواني من قرية العطواني بمركز ادفو بمحافظة اسوان,وقد قال عنه الشيخ محمد متولي الشعراوي- رحمه الله- في كلمته الشهيرة عن بردة الامام البوصيريكأن البوصيري قال البردة لينشدها الشيخ عبد العظيم العطواني. وأكد ان الابتهالات والمدائح بمثل هذه القصائد والاشعار الشبيهة لها, تعتبر دعوة الي الله خاصة انها تخاطب القلوب والوجدانات,مشيرا الي انه كم من اناس دخلوا في دين الله تعالي واعتنقوا الاسلام بعد سماعهم للبردة والقصائد التي تقال في شكل انشاد ومدح,خاصة ان هذه القصائد تشتمل علي حكم ومواعظ وتذكير بتعاليم الله وسنة وشمائل سيدنا النبي صلي الله عليه وسلم, فهي كلها ذكر. مشكلات ومطالب المبتهلين وحول مشكلات ومطالب المداحين والمبتهلين,يقول الشيخ محمود التهامي- وهو من شباب المنشدين في مصر- ان فن الانشاد الديني يعتبر من الفنون الاصيلة في الموروثات الشعبية التي تعبر عن هوية الشعب المصري,فهو فن مواز للثقافة المصرية,ولقد حبا الله مصر بالريادة في شتي الفنون وعلي رأسها هذا الفن الجميل,والذي تميز بالحب في الله ورسوله وآل بيته والأولياء الصالحين,ولكن هذا الفن- كاي فن- اعترته عقبات وسلبيات نالت منه وجعلته يتقهقر وسط مدارس الانشاد في الدول المختلفة, وساعد علي ذلك عدة اسباب منها ان الدولة لاتقدم اي دعم للمنشدين والمبتهلين سواء كان دعما ماديا اوادبيا و معنويا,وهذا يحدث بخلاف المهن الاخري المتعلقة بمجال الفنون,بالاضافة الي عدم الحماية والرعاية في حالة المرض او عند التقاعد ليأمن حياة كريمة بصرف معاش اسوة بماهو متبع,كما ان المنشد الآن مهدد بالتعرض له من جهات عديدة,اضافة الي ذلك كله بعض المدعين الذين لايمتون للمهنة بأي صلة وقد اساء هؤلاء الي هذا الفن اكثر مما اساء اليه غيرهم. وأشار الشيخ محمود التهامي الي ان الحل يكمن في انشاء نقابة مستقلة للمنشدين والمبتهلين, تحمي فن الإنشاد الديني من الذين ادعوا بأنهم منشدون ومبتهلون ومداحون, فضلا عن أنهم لا يتمتعون بجادة اللغة العربية الفصحي ولاينتقون الكلمات النبيلة والهادفة وليس لهم صوت عذب ولامخارج للالفاظ,كما انه وبعد اختلاط الحابل بالنابل تم سحب البساط من تحت اقدام المنشدين المصريين الي دول عربية اخري,لانها اهتمت بهذا الفن,بل أنشأت لهم مدارس وليس نقابة فقط, واضاف انه يجب الاكثار من المهرجانات للانشاد الديني في مصر ويدعي اليه كل دول العالم لتبادل الثقافات ولن يتم ذلك الامن خلال نقابة مستقلة تدعو العالم ليروي حضارتنا وثقافتنا الاسلامية منذ عهود قديمة والتي لم تستغل حتي الآن, ولن يتم ذلك الامن خلال تلك المهرجانات عن طريق النقابة الخاصة بالمبتهلين والمنشدين,مشيرا الي انه اصبح انشاء تلك النقابة امرا حتميا وضروريا خاصة في ظل وجود وانتشار بعض التيارات المخالفة لمعتقدات المصريين, وهي تيارات وافدة علي مصر تشكل خطرا علي الامن المصري, فوجود مثل هذه النقابة تلزم المنشدين بعدم الاندراج مع هذه التيارات في افكارها ومعتقداتها وادائها, لأنه من خلال وجود نقابة يمكن محاسبة من يخالف اللائحة التي يتم وضعها بكل دقة لمحاسبة من يسيء لسمعة وكرامة بلدنا ولمن تسول له نفسه في الاندراج مع مثل هذه التيارات.