حالة من الفخر تستشعرها بين العاملين بالمركز الأوروبي للأبحاث النووية( سيرن) بسويسرا, من أول العلماء حتي الطهاة وعمال النظافة. فالكل ينتظر علي أحر من الجمر الإعلان عن جائزة نوبل في الفيزياء خلال الشهور القادمة والتي من المرجح أن تكون للعالم الذي افترض وجود جسيم هيجز, أحد الجسيمات الأساسية المكونة للكون. فطوال عقود طويلة ظهرت عشرات النظريات التي تنفي وجود هيجز, وأخري تؤكد وجوده, إلي أن نجح فريقان بحثيان من سيرن العام الماضي وفي مثل هذه الأيام في إثبات وجود الجسيم وتحديد وزنه. يشرح البروفيسور ألبرت دي روك رئيس أحد الفرق البحثية التي توصلت لهذا الاكتشاف العلمي الأكبر والأهم خلال السنوات الأخيرة أنه بالرغم من اكتشافهم جسيم هيجز وحصولهم علي العديد من الجوائز الدولية لإسهامهم العلمي الكبير, إلا أن القواعد المنظمة لجوائز نوبل للعلوم لا تمنح الجائزة لمؤسسات بحثية دولية مثل سيرن وعلي ذلك فالأمل معقود أن تمنح الجائزة للفيزيائي بيتر هيجز وآخرين لافتراضهم وجود جسيم هيجز منذ أكثر من50 عاما, وهو بالتأكيد نوع من التقدير غير المباشر لعلماء سيرن والفرق البحثية التي رصدت الجسيم. إعادة سيناريو الانفجار العظيم حتي أفهم بالضبط نوعية التجارب العلمية التي أجريت لرصد جسيم هيجز, كان علي الهبوط علي عمق175 مترا تحت الأرض قرب الحدود الفرنسية السويسرية للاستماع لشرح مطول لمدة5 ساعات عن أهم وأكبر مصادم للجسيمات في العالم. مصادم الهادرون الكبيرLHC وهو عبارة عن زوج الاسطوانات الضخمة علي شكل دائرة محيطها27 كم تدور بها البروتونات بسرعات عالية جدا تقارب سرعة الضوء وتحتاج لتشغيله طاقة كهربائية تعادل100 ميجاوات. هذا المصادم هو أحد أكبر وأشهر مشروعات سيرن والذي أنشئ منذ خمسينيات القرن الماضي للحد من هجرة العلماء الأوروبيين للولايات المتحدة. وبمرور الزمن تحول سيرن لأهم مركز بحثي في العالم ويشارك في مشاريعه البحثية أكثر من10 آلاف عالم من كافة دول العالم. هؤلاء العلماء يمثلون أفضل الخبرات العلمية في مجالات الفيزياء وهندسة الإلكترونيات وعلوم المواد والاتصالات والبرمجيات وعلوم أخري كثيرة. وبالعودة لجسيم هيجز, شرح لي البروفيسور البرت دي روك إلي أنه كي يتم تصوير عملية تصادم البروتونات ورصد نتائجها تم بناء مع المصادم الكبير عدد من الكواشف ومنها كاشفCMS وهو عبارة عن جهاز ضخم يبلغ وزنه14 ألف طن وارتفاعه21 مترا. هذا الجهاز هو أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا التصوير والاتصالات في العالم وبلغت تكلفته500 مليون يورو, شبكة بالغة التعقيد من100 مليون كاميرا وجهاز رصد كل واحدة من هذه الأجهزة تلتقط40 مليون صورة في الثانية وفي وسط هذا الكم الهائل من الكابلات والكاميرات يمر طرفا المصادم الكبير ليحدثا الاصطدام المنتظر بين البروتونات لترصد ملايين الكاميرات نتائج الارتطام. ونظرا لأن عملية تصادم البروتونات تجري آلاف المرات في اليوم الواحد وتحدث في درجات حرارة عالية جدا فإنه يتم إحاطة الكاشف باسطوانة كبيرة للتبريد حتي سالب270 درجة مئوية. هذا الكم الهائل من الصور تنتقل لآلاف الفرق البحثية في مناطق مختلفة من العالم لرصد ودراسة البيانات ومحاولة البحث عن الجسيمات الأولية المكونة للكون. يتذكر البرت دي روك السنوات التي أمضاها مع الفرق البحثية يراجع البيانات التي توصلوا إليها ويوصيهم بعرض النتائج كما هي دون تعديل. فإثبات وجود جسيم هيجز لم يكن بالأمر الهين, فكل عدة آلاف من تصادمات البروتونات تظهر بعض العلامات لوجود هيجز. يوم14 يونيو من العام الماضي, طلب دي روك من الفرق البحثية تسليمه كافة البيانات. وبمطابقة النتائج أدرك أنهم أخيرا وبعد5 عقود من البحث العلمي اكتشفوا جسيم هيجز, ليتم الإعلان الرسمي عن الكشف يوم4 يوليو.2012 أهمية الاكتشاف يقول الفيزيائي جون إليس إنه طبقا لنظرية نشأة الكون والمعروفة باسم الانفجار الأعظم فإنه في أجزاء من الثواني الأولي التي تلت الانفجار ظهرت جسيمات محددة كونت بدورها الذرة والمواد ومن بعد ذلك بمليارات السنين النجوم والمجرات والمجموعة الشمسية والكواكب. أي أن هذه الجسيمات الأساسية هي أصل كل شيء, وما حاولنا إجراؤه هو تجارب تحاكي نشأة الكون لتصوير هذه الجسيمات المعدودة ومن بينها جسيم هيجز. ويضيف جون إليس أن هذا الكشف العلمي يمثل إضافة كبيرة للفيزياء وعلم الكون. فيمكننا اليوم تقدير بشكل علمي مراحل الانفجار العظيم, كما ساهم الكشف في طرح أسئلة أخري مثل ما هي الجسيمات الأخري التي لم نرصدها بعد؟ وكم عددها؟ وهل هناك أكثر من جسيم هيجز؟ كل هذه الأسئلة كما يوضح د.جو إينكانديلا المتحدث الرسمي لكاشفCMS تتطلب تطوير المصادم ورفع كفاءته لتحقيق تصادمات تقارب لما حدث أثناء الانفجار العظيم, وهو ما سيتم تنفيذه خلال السنوات العشرين القادمة. من الإنترنت لعلاج الأورام ويقول البروفيسور بيتر دي نيجري واحد من أهم خمس علماء وضعوا تصميم كاشفCMS أثناء شرحه للجهاز:' ما تراه أمامك هو أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا في العالم, وكعهد مركز سيرن نحن نحرص دائما علي تحفيز العلماء لابتكار حلول تكنولوجية لمواجهة التحديات والمعوقات العلمية التي نواجهها, ثم نكتشف بعد ذلك أن التقنيات التي تم تطويرها بغرض البحوث الأساسية يمكن الاستفادة منها في مجالات أخري. ولعل من أهم الابتكارات التي خرجت من سيرن شبكة الإنترنت والتي ظهرت بهدف التواصل بين علماء الفيزياء, وحاليا نقود ثورة جديدة في مجال الاتصالات بابتكار شبكة الحوسبةcomputinggrid. وفي المجال الطبي وجدنا إمكانية الاستفادة من تعجيل المواد كعلاج إشعاعي للأورام السرطانية فعال دون التأثير علي الخلايا المحيطة به. ويجري حاليا نقل التقنية لعدة مراكز طبية في أوروبا. كما ساهمت أبحاثنا في علوم المواد في رفع كفاءة الخلايا الشمسية, والتي استفاد منها مطار جنيف بتصميم محطة خلايا شمسية لتغذية المطار هذا بخلاف العديد من التطبيقات الصناعية. أوروبا وإسرائيل والدول النامية بمراجعة تقرير سيرن لعام2012 يظهر جليا من الأرقام والبيانات أن ألمانياوفرنسا وبريطانيا يسهمون ب49% من الميزانية السنوية لمركز سيرن والتي تقدر بحوالي مليار يورو. وعن الدول غير الأوروبية المشاركة, تمول إسرائيل60 منحة لعلمائها للمشاركة في أبحاث سيرن المتعددة كما أنها ممثلة كعضو مشارك في مجلس إدارة سيرن وتمول0.3% من الميزانية السنوية لسيرن. الهند تمول منحا لأكثر من115 عالم فيزياء من بلادها, كما أنها ممثلة هي وتركيا كأعضاء مراقبين في مجلس الإدارة. هذا الاهتمام الكبير من الدول غير الأوروبية للمشاركة في أبحاث سيرن يرجع للفوائد البحثية وفرص التعلم ونقل التكنولوجيا التي تجنيها الدول من المشاركة, فالنتائج العلمية والابتكارات التي يتم تتوصل لها ملك للجميع وللمنفعة العامة. مشاركة مصر وعن مشاركة مصر في أبحاث سيرن يقول الدكتور عمرو راضي المنسق العلمي للأبحاث ورئيس أحد الفرق البحثية بكاشفCMS إنه علي مدار السنوات السبع الماضية ومصر ممثلة عبر أكاديمية البحث العلمي في العديد من المشروعات البحثية مثل كاشفيCMS وALICE كما تم تدريب أكثر من45 باحثا من15 جامعة مصرية بسيرن. وحتي نستفيد من الخبرات العلمية المتاحة عرضت مصر تطوير عدد من أجهزة الرصد بكاشفCMS بالتعاون مع مراكز بحثية في فرنسا وإيطاليا. هذا المشروع والذي تموله أكاديمية البحث العلمي من المقرر أن يسفر عن تأسيس معامل بحثية بجامعتي حلوان وعين شمس وتدريب عدد من الكوادر العلمية لتصنيع أجهزة الرصد الحديثة. ورغم ذلك, يشير الدكتور عمرو إلي أننا ليست لدينا الكوادر العلمية الكافية للاستفادة من الفرص العلمية والتقنية التي توفرها سيرن, هذا إلي جانب تكاسل العديد من شباب الباحثين عن التقدم للمنح والتدريب, وهو الأمر الذي يجب الانتباه إليه, فمركز سيرن هو الفرصة العلمية التي يجب أن نلتقطها كي نسير في الركب العلمي الدولي, الآن وليس غدا.