تلبيس إبليس; هذا عنوان كتاب قيم للعلامة أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي الذي كان واعظا مؤثرا وأديبا بليغا عاش في القرن السادس الهجري وأهمية هذا الكتاب ترجع الي موضوعه الفريد فالمؤلف يصف فيه أساليب إبليس التي يخدع بها الانسان ويلبس عليه الباطل بالحق, والحرام بالحلال, والشر بالخير, حتي يوقع به في حضيض الإثم والغواية ويدفع به الي البغي والعدوان وهو يظن أنه يفعل الخير. قفز عنوان هذا الكتاب إلي خاطري, وتردد علي لساني وأنا أستمع الي خطاب مرشد جماعة الاخوان يوم الجمعة الماضي وقد أخبرنا الله في كتابه الكريم أن الشياطين التي تضل الانسان ليست من الجن فقط بل هي من الجنة والناس, وهذه الخطبة كانت مثالا جامعا لتلبيس إبليس علي الطريقة الإنسية وهي أشد خطرا من الطريقة الجنية; لأنك تري أمامك وجها تراءي بالتقوي وتسمع لسانا يردد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويرفع كفيه بالدعاء في ساعة الإجابة, وهو في حقيقة أمره يطوي بين جنبيه روح خناس, ويدس لمستمعيه البسطاء سموم المعاني في معسول المقال, ويدفع في ظهورهم إلي الهاوية السحيقة التي لا مخرج لهم منها. من أول أساليب التلبيس أنه اختار لخطابه المسموم هذه الساعة الأخيرة من يوم الجمعة, وهي كما يعلم المتدينون ساعة إجابة للدعاء في رأي جمهور العلماء فإذا اختار المرشد هذه الساعة وقام فيها خطيبا وختم خطبته بالدعاء علي خصومه واستنصار ربه, وقع في خلد هؤلاء المستمعين حسني النية أن التوفيق قد صادف محله, وأن هذه هي الإمارة الدالة علي أنهم أهل الحق وأن هذه هي إشارة النصرة الإلهية, وأني لهؤلاء المساكين المغرر بهم أن يعلموا بأن الخوارج الذين قاتلوا عليا رضي الله عنه, وخرجوا علي إجماع المسلمين كانوا أيضا يتحرون ساعات الدعاء المستجابة لا في ساعة من نهار فحسب; بل في دلجات الليل المظلم, كانوا قوامين صوامين يحقر المؤمن صلاته الي صلاتهم, وصيامه الي صيامهم, كانوا يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم إلي قلوبهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وهذا وصف النبي عليه الصلاة والسلام لهم قبل أن يظهروا ويتعاقبوا جيلا بعد جيل إلي يومنا هذا. ومن أساليب التلبيس الإبليسية الإنسية أنه يخاطب الجمع البئيس الذين تتلقي آذانهم سمومه المعسولة علي أنهم هم وحدهم شعب مصر الذي يستمسك برئيسه المعزول, ويفديه بالغالي والنفيس من ماله ودمه, ويحرضهمم علي العدوان قائلا( إما أن نعود به محمولا علي أعناقنا وإما أن نفديه بأرواحنا) متجاهلا أغلبية ساحقة من الشعب المصري تمثلت في تلك الجموع الحاشدة التي اكتظت بها مدن مصر وميادينها وشوارعها من شمالها الي جنوبها ومن شرقها الي غربها وقد خرجت رافضة بكل عزم وقوة وإرادة مستقلة أن تستبد بأمرهم جماعة أو يحكمهم رئيس خدعوا في سمته فانتخبوه, ثم انكشف لهم قناعه عن ضعف وتبعية وفشل في الحفاظ علي أمن مصر ووحدة أرضها وشعبها. ومن أساليب التلبيس أنه عزف علي الوتر العاطفي في الوجدان المصري حينما تباكي علي شيبة المرشد السابق واستند إلي الحديث الشريف الذي يحث علي تكريم كبار السن ويعظم من شأنهم عند الله حتي أنه سبحانه يستحي أن يعذب صاحب شيبة شابت في الإسلام, ويرتب علي ذلك الحديث هجوما علي قضاة التحقيق الذين يحققون مع المرشد السابق متهما إياهم بأنهم لا يستحون مما يستحي الله منه, هكذا قال وقوله هذا هو التلبيس عينه, فالتحقيق ليس تعذيبا بل هو سعي إلي كشف الحقائق وإلي نفي الاتهام أوإثباته, ولو كان كبر السن يمنع من المساءلة والمقاضاة لكان أولي بالعفو من الحساب والمساءلة الرئيس الأسبق مبارك. ومن أساليب التلبيس أنه يوحي إلي الذين دانوا له بالسمع والطاعة أن العناد في مواجهة حشود الشعب الغاضبة جهاد في سبيل الله واستماتة في سبيل إقامة الدولة الإسلامية فيوهمهم بأن هذه الجموع التي لا تدين له بالسمع والطاعة لا تحب الإسلام ولا تريد أن تقوم لدولته قائمة,مع أن من بين أبناء هذا الشعب الغاضب من قد يكون أكثر منه خشية لله وأعمق منه حبا لدينه وأوسع منه علما بالاسلام وشرائعه ولكنه يريد أن يوحد بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإخوان. خطرت لي هذه الخواطر وأنا أسمع هذا الخطاب التلبيسي الإبليسي ويختلط في ذهني مشهد تلك الساحة المسماة باسم الصالحة رابعة العدويةالتي كانت نموذجا عند الصوفية للزهد في مطامع الدنيا ومثلا فريدا للفناء في حب الله, فقلت في نفسي كيف يجتمع النقيضان. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل